This website is being formatted... please be patient until we finish our upgrading...

الخميس، تشرين الأول ٢٧، ٢٠٠٥

سوء إدارة الأزمات

في العادة تقود سياسات الدولة الناس… لكن في لبناننا الحبيب وبسبب غياب التنسيق بين مختلف
أجهزة الدولة فإن هذه السياسات هي مجرد إشاعات يبثها مصدرٌ في جهازٍ إعلامي… وكما تبرق في المشرق وترى في المغرب، تشقّ الأخبار طريقها في كلّ الاتجاهات… كلٌّ يقرأ على طريقته… كلّ يسمع على طريقته… فيبيض الديك وتطير العنزة والذي يقال واحداً يسمعه الناس عشرة… ونتيجةً لذلك يتكبّد الناس فالدولة خسائر فادحة…
والمعروف أنّه في غياب البراهين والاختبارات فأقوال المصادر تفتقد إلى المصداقية حتى وإن كانت نقلاً عن مصادر أجنبية…

في الآونة الأخيرة رمى المسؤولون في الشارع خبر أنفلونزا الدجاج… ثم اختفوا… بينما لا يزال هذا المرض يتفاعل إقليمياً…
اختفوا دون الإيضاح للناس كيف ينتقل هذا الفيروس؟ ما هي عوارضه؟ وكيف يمكن تجنبه؟ هل هناك من لقاح؟ ما الإجراء الذي اتخذوه لحمايتنا؟ هل حقاً يوجد لدينا مختبر باستطاعته تشخيصه؟
أشك في ذلك يا معالي الوزراء والمدراء العامين…
فتصرّفكم المشين دمّر ما تبقى من قطاعٍ زراعي… وأصحاب مزارع الدواجن كسدت أرزاقهم… وأفلس منهم كثيرين… لماذا؟!
لأنّ الناس اعتقدت أنّ هذا الفيروس ينتقل عبر أكل الدجاج، أو عبر أكل بيض الدجاج… فنال مربّي الطيور المنشار القاطع من جهتيه… فهم المعرضون الأوفر حظاً لهذا الفيروس بحكم عملهم، وهم من توقفت أعمالهم بسببه…

فيا مواطني الأعزاء، أقول لكم ما لم يقله معاليهم… ليس لدينا في لبنان أنفلونزا الطيور… وإن وجدت فالدجاجة المصابة لن تصل إليكم
لتأكلوها… كما أنّ أنفلونزا الطيور لا ينتقل عبر بيض الدجاج… وإن اتخذ إجراءٌ جدّي للمكافحة فقد نكون بمنأى عنه…
وأنا ههنا لست لأرجوكم، بل لأقول لكم أنّه يجب التوقف عن الصيد… وطبعاً هذا ليس بأمر، لكنّه دعوةٌ حقيقية للمشاركة في واجبٍ وطني وأنساني…… منبّهاً إياكم أنّه ليس هناك نوعٌ من الطيور يحمل الفيروس معه وآخر لا…

د. ساسين ميشال النبّوت
http://www.sasar.blogspot.com/

الأربعاء، تشرين الأول ١٢، ٢٠٠٥

طفلٌ يكبر

كانت أمي تقضي أوقات النهار بتمرير أناملها بنعومةٍ شديدة على بطنها لتداعبني، فأردّ أنا بركلات خفيفة... وقد أنّها تفرحها لأنّ نبضات قلبها تتراقص فرحاً كلّما فعلت ذلك... ولا أستطيع عدّ الأيام التي كنّا نجلس سوياً، وكانت تقرأ لي قصصاً وأخبار... فتعلّمت الخيال والأحلام وأنا لا أزل في كيس الماء...
كنت رفيقاً يؤنسها كلّ النهار في غياب أبي الذي كان يكدّ ، ليعود في المساء حاملاً أطيب الأطعمة... طبعاً، فبماذا قد يفكّر طفلٌ في طور النمو؟!... أليس بما يستطيع أن يسرق من الغذاء المتوفّر في عروق أمّه... وأقول لكم أنّ أجمل اللحظات عندي كانت عندما أسمع أبي وهو يتغزّل بأمي... وكانت ترتعش أوصالها، ومعها كنت أرتعش أنا، ولا ضير في ذلك كوني الثمرة على شجرة حبهم ... وقد كانت أميّ تخبره بما كانت تحسّ خلال النهار، فيضع أذنه على بطنها كي يسمع نبضات قلبي...
مرّت ستّة أشهر وأنا في بطنها، وكان عدّ الأيام أوّل ما تعلّمته من البشر... وكنت أنصت بتركيزٍ كبير إلى كلّ ما يدور حولي... وأحفظ في قلبي بصمتٍ كلّ ما يقول له البشر أسرار... بما في ذلك أسرار والديّ ... وكنت أزور معها كلّ الأماكن... الأحب على قلبي منها كانت زيارة أقربائي الذين لم أسمع منهم إلا ثناءهم ومحبتهم الكبيرة لها... وكان سؤالهم لها ملازمٌ لأحاسيسي... متى يكون الموعد... متى سألامس هذه الأرض...
لقد انتظرت يوم ولادتي بفارغ الصبر... انتظرته بعدما أحسست بأنّ هذا العالم مليءٌ بالحب والحنان...
في يومٍ من الأيام، تعبت أمي كثيراً من عمل المنزل، خصوصاً وأنّها تتحمل وزني الثقيل... وفي المساء عاد أبي حانقاً مكفهراً، فسألته أمي عن السبب... وما فهمته من حديثيهما أنّ أحدهم، وبسبب خلافاتٍ بين عائلتينا، منع أبي من الترقّي في وظيفته... وكان حزن أميّ شديداً، لدرجةٍ جعلتني أتمنى لو أختصر المسافة بوقتٍ قليل لأنتقم ممّن كان السبب في ذلك... لكن لم يكن لدي القدرة لأخرق الطبيعة، فرحت أنتظر انتهاء مهلة سجني في الرحم، حتى أخرج... أنتظر وأنا أسمع أبي كل يوم يكرر كرهه لهؤلاء... الكره الذي كان آخر ما تعلمته قبل قدومي إلى هذا العالم...
أتى اليوم المنتظر، وكان أفراد عائلتي ينتظرون في الخارج، باستثناء أبي الذي دخل ليمسك بيد أمي، التي كانت تتألم من المخاض...
خرجت إلى العالم، وأول ما قابلته كانت صفعةً من الطبيب على مؤخرتي... وكنت متمنيّاً لو أنّه فهم لغتي في حينها، لكنّي أثبتُ لاحقاً أنّي أكره الأطباء، كما كل الذين يعتقدون أنّهم بضربي يستطيعون تعليمي كيف أعيش... لكن ما هدأ ثورة غضبي كانت أول قبلةٍ أراها مباشرةً... قبلة أعطاها أبي لأمّي...
بعد يومين خرجت من المستشفى، لأمكث لأمدٍ غير محدد في الغرفة التي صنعت وصممت خصيصاً من أجلي... وأكثر ما قمت به كان البكاء، فقد كان وسيلتي الوحيدة للحصول على الطعام...
مرّت سنينٌ خمس، وذهبت إلى المدرسة... وهناك حيثما كان يجب أن أتعلّم، التقيت بابن الذي كان سبباً بتعاسة أمّي وأبي... وماذا حصل؟! هاجمته وأبرحته ضرباً... ولو لم يبعدني أهل النخوة لكنت أكملت حتى مات... فأخذوني وقتها عند الناظرة، التي كانت من أقرباء أبي... فقامت بتهدئتي... وطبعاً سألتني عن سبب تصرفي الأرعن... فقلت ما عندي... لكنّي صدمت بجوابها لي: يا عزيزي... والدك لم تكن له المؤهلات لنيل ذاك المركز... ووالدك هو من غذى الحقد عندما رفضه هذا الرجل...
ماذا تريدون منّي أن أحسّ ذاك الوقت... فلم أعد أرى ما حولي ولا أمامي... وصرت اسمع وأتكلم كمن يهذي.. إلى أن وصلت البيت، وتأكّدت أنّ ما قالته قريبتي صحيح... عندها طبعاً أقفلت على نفسي، ولم أعد أعرف ماذا أقول أو ماذا أفعل...
مرّت الأيام، وتعافيت تدريجياً وبصعوبةٍ كبيرة من الصدمة... وعدت إلى مدرستي... لكنّ الغريب، أنّني كلما كنت ألتقي بذاك الصبي لا أجد نفسي إلا حانقاً غاضباً ، وكنت أضربه حتى بالحجارة إن كان بعيداً عن متناول يديّ... لكنّ قلبي كان يئنَ من ألألم بسبب تصرفي... ولم أستطع يوماً أن أوقف انتقامي التافه ...
فأخذت عهداً على نفسي بأن لا أتكلم عن الكره أمام أولادي، حتى وإن كنت على حقّ... لماذا؟!... لأنّي عرفت ما هي قيمة انتقال الكره بالدم...

د. ساسين ميشال النبوت

السبت، تشرين الأول ٠٨، ٢٠٠٥

قدموس

بينما كانت السفن تحمِّل كلّ الخائفين والمتذمّرين من حالة الوطن... وبينما راحت تتسابق هاربةً لتحافظ على ما تبقى من السلالة التي ليس لها من مثيل في كلّ الأرض... وصل الخبر إلى أذن قدموس، الذي كان يجوب بسفينته في كلّ البسيطة ليعلّم الناس الحرف فصُدم حتى الموت...

أيعقل؟! أيعقل أنّه هو من ترك بلاده ليشعّ نور المعرفة في كلّ مكان يخسر بلاده؟!...
فأوقف رسالته الإنسانية وقفل عائداً إلى أرضه الأم...
نعم، قرّر العودة مع أنّه كان يجدف عكس التيار، ومع أنّ الرياح الغربية كانت تعاكس أشرعته...

وكان كلّما التقى بواحدة من السفن الراكضة يستوقفها مستفسراً... فلا يلقَ إلا جواباً واحداً: هل جننت لتعود إلى الخراب والضياع؟!...
بينما كان ينتهرهم: هل جننتم؟ هذا الوطن... هذا لبنان... أين أنتم ذاهبون؟... ماذا تعتقدون؟... ماذا ينتظركم في الغرب؟... آه! هذا لبنان... هذه الجنّة، أين أنتم ذاهبون؟...
فلم يكن يتلقّى إلا قهقهات الاستهزاء، وكم كان ألمه كبيراً...

ما إن لامست سفينته المياه الإقليميّة حتى تراكضت نبضات قلبه... فأحسّ بفرحٍ غريب رغم الحزن الذي كان يتآكله...
لكنّه ومن بعيد، شاهد الناس يحتشدون عند المرفأ... وعندما اقترب أكثر شاهد أبناء وطن الأرز يقبّلون وهم راكعين أيادي السفراء، ليحصلوا على ختمٍ أو ورقة تخوّلهم ترك الوطن...
فهاله المنظر... وتمنّى لو أنّ البحر ابتلعه وسفينته قبل أن يرى ما رأى...
ما أن لامست أرجله الأرض، ركع وقبّلها... ثم قام بطريقةٍ هجوميّة صوب الناس وراح يصرخ قائلاً:
لبنان هو أرضنا... لبنان حبيبنا... لبنان سلامنا... لبنان راحتنا... لبنان بيتنا... لبنان رسالتنا... لبنان لنا...
لمن تتركوا مساجدكم وكنائسكم؟...
لمن تتركوا بيوتكم؟...
لمن تتركوا قدّيسيكم؟...
لمن تتركوا الأرز؟...
كيف سيعطونكم أرضاً وهم طامعون في أرضكم...
كيف سيحبكم من أنتم دوماً في نظره "الغرباء"...
حيث أنتم ذاهبون لا سلام لكم لأنّكم ستكونون أوّل من يعتقل كلّما تعارك زعيمٌ منهم مع صاحبته...
هل تعتقدون أنّكم قبلتم في بلادهم إلا لتكونوا أجراء...
بلادنا ليس هناك مثل جمالها...
بلادنا ليس لها مثيل أيّها الإخوة...
عودوا... عودوا... عودوا...

من كان له من الناس آذانٌ للسمع في ذاك اليوم وسمع عاد...
وعلم الكثيرون بأقواله فتمسّكوا الوطن...
ومن عرف مدى حبّه لأرضه، أبى أن يحيا إلا في الأكواخ التي بناها أجداده، وأبى ألا يدفن إلا فيها...
ولم يكتف قدموس بنفسه، بل راح يجمع من كلّ حدبٍ وصوبٍ في الوطن كلّ من في نفسه حبّ لبنان... وكلّ من في الغربة ويحنّ لرائحة وهواء لبنان... ومن كان في نفسه خوفٌ من الكلام، شجّعه وساعده حتى يصير طليقاً... من لم يعرف كيفيّة البناء، حمل معه وبنى معه... من عمل حسناً أثنى عليه، مذكّراً إيّاه أنّنا كلّنا للوطن...
من كلّ حدبٍ وصوبٍ لملمهم... وجمعهم كلّهم في حزبٍ واحد، وهو ما لم يقدر على فعله قائد مرّ يوماً على السلطة... جمعهم في حزب لبنان... حزب حبّ لبنان... حيث ليس هناك حقّّاً لا طائفية، لا مذهبية، لا مناطقيّة ولا فئوية...

فيا قدموسنا!
شكراً لما قدّمت وتقدّم من وقتٍ وجهدٍ مجاناً خدمةً للبنان... ورجلاً كنت أم فتاة، فبأعمالك أنت رجل ولا كلّ الرجال...
ولا تأبه إن تركت سفينتك مرافئ البعيد، لأنّك بعودتك إلينا حميت مرفأ الوطن الأبدي... ولأن حرفك اللبناني الأصيل خرق ولا زال يخرق الأزمنة والأماكن... فأنت ومنذ آلاف السنين لم تتوقّف عن تعليم الحوار بالحرف والكلمة لكلّ شعوب الأرض...

د. ساسين ميشال النبّوت

الاثنين، تشرين الأول ٠٣، ٢٠٠٥

الشاعر

عرفت في أيّامي عن واحدٍ من الشعراء المغمورين، الذين لم تُتِح لهم المادة التقدّم في الإبداع... فقد جعلته عبداً للعمل الذي تحكّم به وبأوقاته...
وكان شاعرنا هذا مرهف الإحساس، ورهافة إحساسه جعلته شديد الحزن... لأنّه ليس هناك في هذه الحياة ما يحول دون جرحه... فرؤية الفقير المعدم، والمريض المتألّم كانت تجعل قلبه منقبضاً... حتى الأشياء التي قد نحسد الناس عليها كانت تبكيه...
كان واحداً من الأشخاص القلّة الذين يرون باطن الأمور، ولا يقتنعون بأشكالها الظاهرية... بمعنىً آخر كان لا يكلّم إلا الروح، ويفهم كلّ عذاباتها وأفراحها...
فاتهمه الناس بالضعف لكثرة حنانه وتسامحه...

تعرّف الشاعر في أحد الأيام على فتاةٍ رائعة الجمال، نقية القلب... فوقعا في الحب...
لكن من ذكر أنّ رجلنا كان مرتاحاً... فقد كان الفقر يعذّبه بسياطه...
لكن ما هو أفضل من أن يهدي شخصٌ قصائد لحبيبته؟...

وبما أنّ الفقير عليه دوماً أن يأكل الحصرم، وقع حادثٌ مروّع... والفتاة الرائعة انشلّت رجلاها وخسرت عيناها كما تشوّه وجهها بصورةٍ رهيبة... وبكى شاعرنا حتى جفّ فيه الدمع... وذهب إليها مسرعاً... لكنّها كانت قد أوصت أهلها أن يمنعوه من الدخول، وأن يقولوا له أن يرحل، لأنّها لم تعد الفتاة التي أحب... فرجاهم باكياً أن يسمحوا له إلى أن حنّ قلبهم على من لم يروا منه سيئاً...
دخل وركع أمام فراشها فما كان منها أن قالت: أرجوك اتركني وإنساني... ألا ترى؟... لقد صرت قطعةً من اللحم والعظام لا تنفع شيئاً... ألا ترى؟! لم يعد لدي جمال ولن أرضيك بعد اليوم...
فقال الشاعر: منذ متى وأنت تعتقدين أنّي أحبّ جسداً تستطيع الأيّام ومصائبها أن تدوسه؟... ألا تعلمين أنّي أحبّ روحك ومن دونها لا أعيش؟... أرجوك لا تقولي أنّك لا تستطيعين إرضائي... فإن كنت عمياء، عيناي هما من ينيران طريقك... وإن كنت مشلولة، فجسمي أرجل توصلك إلى حيث تريدين... وإن كنت تعتبرين نفسك بشعة، فأنت أجمل إنسانٍ في نظري...
فمدّت له الفتاة يدها، وراح يقبّلها وهو يجهش بالبكاء...

وفي يوم زفافه منها كان معظم الناس يقولون: لقد جنّ وهو في عزّ شبابه... باستطاعته أن يتزوّج أيّ فتاة، فاختار العمياء والمشلولة منهنّ!!!...
فقلت لهم: هذا هو الحبّ...
فقالوا: حقاً إنّ الحبّ أعمى...
فقلت: لا، الحق أقول أنّه ليس هناك من حبٍّ أعمى، بل هنا أناس عميان... عميان عن الروح...

د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ٢٧، ٢٠٠٥

النحّات

كان هذا الرجل رفيق طفولتي، وقد أثبت منذ نعومة أظافره أنّه من المؤمنين بالطبيعة، ومن عشّاق الجمال والحياة فيها... وذلك عبر عاداتٍ غريبة لم يفهمها الناس... فاتهموه بأوصافٍ كثيرة... منها رجل الحجارة، لأنّه كان يذهب إلى الأرض البور ويعود منها حاملاً معه حجارةً وصخوراً من أشكالٍ وأحجامٍ متنوّعة... وكان يضعها أمام بيته ويقضي معظم أوقات النهار ناظراً إليها...
وقد كنت أفهمه... ولا ريب في ذلك، فقد كنّا نقضي أوقاتاً كثيرةً معاً... كنت أعرف أنّ هذه الأحجار تعني له الكثير... ولطالما أخبرني بكلّ ما يجول في خاطره... وكان دوماً يقول: هذه الطبيعة هي أعظم نحّات... فلها جلدٌ طويل، وقدرةٌ غريبة، وإبداعٌ لا يعرف الحدود... يا ليت تكون لي القدرة على فهم كلّ أسرارها المدفونة في ظواهر هذه الصخور...
وكنت أقول: ماذا يمكن أن تعني هكذا حجارة؟!... وكان يقول: أنظر إلى هذا الحجر الذي تملؤه الثقوب... إنّه ليدلّك على الكتلة القويّة التي نخرتها الأيام في نقاطها الضعيفة... فإن كانت لك يا صديقي نقاطٌ ضعيفة، لا تدع الأيّام تراها كي لا تسحقك لأنّك لست أكثر قوّة وصبراً من هذا الحجر...
أنظر إلى ذاك الحجر، إنّه كعجينٍ من الألوان، وهو يشبه بذلك الروح البشرية التي تتمازج فيها مجموعة من المتناقضات الغريبة...
أنظر إلى تلك الحجارة السوداء، ألا ترى أنّها بشعة؟... وأؤكد لك أنّ كلّ الناس يرونها كذلك... لكن أتعرف أنّ في نفس كلٍّ منّا واحدٌ وأكثر منها، ونحن لا نرَ أنّها بشعة لأنّها سبب فرحنا المادي...
أنظر إلى ذاك الحجر الضعيف المكسّر... إنّه مثلٌ للإنسان الضعيف الذي لا يستطيع الصمود أمام الضربات بسبب تركيبته...
أنظر إلى ذاك الحجر الذي كسرته نصفين، فوجدت أنّ له من الخارج لون ومن الداخل لونٌ آخر... أوليس مثالاً للإنسان الذي يخدعك بمظهره...
آه يا رفيقي! لا أقدر أن أرى جماداً كما يقولون له... لا أقدر أبداً فأنا أعتبره غير موجود بسبب عشقي للحياة التي أراها في كلّ مكان... ولهذا اخترت أن أكون نحاتاً... لأنّي عرفت أنّ الناس لا يصدّقون أقوالي، فحوّلت الصخور إلى نساءٍ جميلات، ورجالٍ أقوياء، وعظماء ومفكّرين... وكلّ ذلك كي أقرّب لهم الصورة التي أرى...

فقلت له: على البوّابة الفاصلة بين واقع حياة الإنسان وعمق نفسه صخرةٌ كبيرة... تمنع الشخص الحي من رؤية الإنسان الحقيقي... فهل تستطيع أن تنحت صورةً لهذا الإنسان على الجهة الواقعية من هذه الصخرة... كي يرى الشخص جمالها فيوافق على فتح البوابة...
فقال: يا ليت!... هذا كان ليحصل لو أنّي أملك الكلمات أزميلاً، والجرأة والقدرة مطرقة...
د. ساسين ميشال النبّوت

الجمعة، أيلول ٢٣، ٢٠٠٥

رسالة إلى الصيّادين...

درجت العادة في بلادنا بأن نستقبل كلّ الطيور العابرة بزغردات النار والرصاص... بعد أنقضينا بشكلٍ شبه تام على كلّ ما نملك من ثروةٍ حيوانيّة بريّة... فلا السنونو ولا الوروار ولا البط ولا البجع ولا الفرّي ينفد بريشه... إذ قد بُرمجنا على إسقاط كلّ ما يطير!!... وتحوّلت هذه العادة من مجرّد رياضة إلى إبادةٍ جماعيّة... حتى صار البعض يرفض العودة إلى منزله وليس في الجعبة مئات ومئات من القتلى...
حقاً صرنا نشتاق لنرى العصافير... للأسراب وهي تشقّ سماء قرانا...
لقد اشتققنا لصوت الطيور يوقظنا كلّ صباح...
وقد ضجرنا من الاستفاقة كلّ يومٍ على صوت الطلقات الناريّة...

يا إلهي! حتى الطيور في بلادنا تفتقر إلى السلام...
لو أنّ أحدكم يذهب إلى الخارج، ويرى كيف أنّ الطيور بكافة أنواعها تسير بين الناس بلا خوفٍ ولا خجل...

في بلدان الاغتراب تحترمون القانون... وأمّا في بلادكم فلا تعرفون إلا التسيّب وعدم المسؤولية...
لقد ذهبت إلى هناك... ولم أجد شرطياً واقفاً ليراقب كلاً منكم...

اليوم الرسالة رسالتين... الأولى رجاءٌ بالتخفيف من حدّة الاهتياج والابتهاج... والأخرى هي ترك الطيور العابرة وشأنها...
لماذا؟!
لقد سمع الكثيرون منكم بأنفلونزا الطيور... فما أريد منكم معرفته هو أنّ هذه الطيور القادمة بمعظمها من مناطق موبوءة مثل روسيا وإيران وبلدان آسيا الوسطى، تحمل معها الفيروس وإن لم تكن مريضة ... وبإنزالها في بلادنا نكون قد نقلنا بسهولةٍ غير متوقّعة هذا المرض الخطير الذي أثار ويثير الرعب في كلّ الدول الآسيوية كما في كلّ العالم...
فتوقّعوا إجراءً من وزارة الصحة كما من منظّمة الصحّة العالمية... وتوقّعوا أيضاً أن ينفذ قانون منع الصيد، الذي يؤسف انّه موجود، لكنّه كغيره من القوانين قابعٌ في أدراج الحكومة، منتظراً الحقيقة والفرج...

د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ٢٠، ٢٠٠٥

ترابٌ يبكي...

قال الميت:
صرت تراباً في القبر حيث رميت لأبقى وحيداً...
وحيداً بعد أن قضيت أيّامي بين الناس...
قضيتها فانطبعت حياتي على كتبٍ في عقولهم...
حياتي التي لم يبقَ منها إلا ما علِق على تلك الكتب من ذكريات...
أوراقٌ قرأها عنهم الجهد والهم والانشغال...
قرأها فمزّق ما تبقى منها...
ما تبقى الذي صار ضعيفاً فطار مع رياح النسيان...
رياحٌ هبّت مع مرور الأيّام فمحت أيّامي...
أيّامي التي نقّبت فيها هذه الأرض...
نقّبت فحوّلت التراب ببذار المحبّة إلى خبزٍ للأجيال...
التراب الذي صرته الآن...
صرته فإذا بي سجينٌ في قفص القبر...
سجينٌ لا ينفع الأحياء كما ينفعهم التراب الحقيقي...
الأحياء الذين أنتظر مرورهم قربي...
أنتظر لأرى إن كان هناك من ينبض قلبه بالحياة...
إن كان هناك من سيخرج ترابي من القبر، من النسيان...
إن كان هناك من سيخرق الخوف ليبذر بذاره عليّ في أرضه...
إن كان هناك من يهتمّ لأمري فيجعلني أستمرّ بإعطاء الخبز للأجيال...
من يجعلني أحسّ من جديد بالحياة... الحياة... آه!!! وراح التراب يبكي ويبكي...

فقلت:
ها هو التراب يبكي لأنّ أحداً منّا لم يأبه له...
هو من كان في يومٍ من الأيام ممتلئاً بالحياة...
من يحنّ في كلّ يومٍ إلى الحياة...
يحنّ إليها ويحبّها أكثر ممّا يفعل أحياءٌ مثلنا...
أحياءٌ بكوا على القليل الذي ضاع ولم ينظروا إلى الحبّ، إلى المعرفة، إلى العمل...
لم ينظروا إلى الحياة... كي يفرحوا بها... كي يحبّوها...

هذه الكلمات هي لكلّ من تكسره الصعوبات كي لا يستسلم...
لكلّ من يغرقه الحزن كي لا يختنق...
لكلّ من يحسّ بالألم كي يحبّ الحياة...

د. ساسين ميشال النبّوت

الأربعاء، أيلول ١٤، ٢٠٠٥

إنسان...

سرت على طريق الحياة، طريق التراب...
سرت مسرعاً فتطاير الغبار ورائي...
غباراً جعلني أتقدّم أكثر على من هم خلفي...
غباراً رقد رويداً رويداً ليغطيّ آثار أقدامي...
أقدامي التي كانت منهكة من الألم...
أقدامي التي كانت تغرق أكثر فأكثر في التراب...
التراب الذي منه ولدت والذي أعادني مع الوقت إليه...
التراب الذي أخفاني في لبّه بعد أن تقدّمت كثيراً...
تقدّمت فداستني أرجل من هم خلفي...
تقدّمت فصرت غباراً يتطاير خلف من كانوا خلفي...
تقدّمت ولم يبقَ منّي إلا تلك الذكرى...
ذكرى الإنسان...
ذكرى الروح التي لا تموت...


د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ١٣، ٢٠٠٥

وُلدت مريضاً

أنا الطفل الذي بكى من عصا الألم التي أهرت جسدي الضعيف مذ وُلد...
بكى من دموع أمّه وأبيه التي زادت من عذابي...

أنا الطفل الذي مرّ مثل نسمةٍ على حديقة البيت فمالت حشائشها بالأحزان...
مرّ مسرعاً على هذه الدنيا فلم يرَ فيها لا نوراً ولا ظلاماً...

أنا الطفل الذي مات دون أن تلوّث خطيئة الإنسان جسده...
مات تاركاً حضن أمّه الدافئ ليصل إلى السماء...

أنا الطفل الروح التي لم تستطع تحمّل أشواك جسمها فهربت منه...
الروح التي تركتكم وأنتم تبكون الفراق...

سامحوني لأنّي رحلت كي أصل إلى مكانٍ ليس فيه أوجاع...
سامحوني وافرحوا لأنّي وجدت ما كنت أبحث عنه...
افرحوا لأنّي سأصلّي لأجلكم من حضن اللّه...
افرحوا لأنّي اليوم عصفورٌ في الجنّة...
وأرجوكم ألّا تذرفوا لأجلي دموع حزنٍ بل دموع فرح...
ولا تقولوا أبداً أنّي لم أرَ يوماً جميلاً...
أيّامي كانت كلّها جميلة لأنّكم كنتم بقربي...

هذه الكلمات هي منّي إلى كلّ القلوب التي تلوّعت على أطفالٍ قضوا بسبب أمراضٍ لم يقوَ عليها علم الإنسان...

الأحد، أيلول ١١، ٢٠٠٥

حضارة الملوك والمماليك...

الحضارة... كلمة سمعتها للمرّة الأولى عندما قالوا لي أنّي ابنٌ لأرضٍ كانت مهد الحضارات... مهد الأديان والإنسان...
كنت أنظر إلى وجوههم الممتلئة فرحاً عندما يأتون على ذكرها... فرحت أتخيّل كيف سأخرج في الغد إلى أمتّي لأراها لابسةً ثوب هذه العظمة التي تغنّوا بها... رحت أفكّر كيف سأجد أجدادي في أبنائهم... باحثاً من كلّ قلبي عن ماهية هذا الشعب العظيم الذي مخر عباب البحر وأسس الدول... هذا الشعب الذي علّم العالم الحرف... الشعب الذي خرج منه قائد كهنيبعل... الشعب القليل العدد الذي قاوم الاسكندر، ومات دون أن يرضى بالاستسلام...
رحت أفكّر وأتشوّق حتى يحين ذلك الوقت...
ولم أكن قد حسبت له في الحقيقة حساباً... لأنّي كنت مشدوهاً بما تخيلت... إذ أنّي أصغيت حالي حال كلّ الأطفال إلى من هم أكبر منّي... فصدمت بما رأيت...

أيعقل أن تكون هذه هي العظمة التي كلّموني عنها؟... حضارةٌ أسيرةٌ في كتب التاريخ... أمّة يتحكّم بها ورثة الأمجاد الذين قضوا عليها وباعوا الباقي لأممٍ أخرى...
هل هذه هي الحضارة؟ هي التي حوّلت شعبي إلى ملوك...
ملوكٌ لم يعد العمل يعنيهم... بل حتى صار يهينهم... فالمماليك يفعلون كلّ شيءٍ عنهم... حتى تربية أبنائهم، وحملهم ورعايتهم...
حضارة ملوك لم تعد الأرض ذات نفعٍ عليهم، فهجروها وحوّلوها إلى مرمىً للنفايات بعدما كانت منارة للأمم...

نعم أيها الملوك... لقد اشتاقت أرض الوطن لعرق جبينكم... لا لرائحة المواخير التي أغرقتموها بها...
نعم أيها الملوك... لقد اشتاقت لمن يعطيها دون أن يفكر كم سيأخذ منها من أضعاف...

كيف تستطيعون رفع رأسكم بينما مماليككم أكثر منكم في وطنكم...
بماذا كنتم تتغنّون أمامي؟...
أبمجدٍ ضائع؟...
أبذكائكم الذي أخذه الغرب منكم بسعرٍ رخيص، لأنّه لا يوجد في بلاد الإقطاع من يريد الذكاء؟...
أبكرمكم الذي كان زائداً عن اللزوم، فقدّمتم وطنكم برخصٍ على مذبح الأمم...
أبتجارتكم التي لم يعد هناك من يثق بها لأنّ أهم ما تسوقوه هو الغشّ...
أبقوّتكم العسكرية ووطنكم تسرح فيه وتمرح على هواها كلّ أجناس البشرية...
أبمغتربيكم... وهم يصرخون من البعيد مطالبين بالجنسية وحق الانتخاب دون مجيب، بينما أنتم تعطون الجنسية وحقّ الانتخاب لمن لا يعرفون قيمة لبنان...
أبإرادتكم القوية التي سيطر عليها غيركم وخلعكم من مركز القرار...
أبوطنكم مهد الأديان الذي حوّلتموه إلى مزرعة طوائف...

أكنتم تتغنّون أمامي بأجدادكم؟... ألا تعرفون أنّهم لو دروا بحالكم لندموا على تأسيس هكذا أمّة؟... لكانوا باعوا دماءهم في بنوك الدم لو كانت موجودةٌ في أيامهم… لكان السعر الذي جمعوه أغلى بكثير ممّا دُفع لكم ثمناً لمن هدروا دماءهم لأجله...

هذه هي حضارتكم التي في الماضي شغلت فكري وخيالي... أنتم من رسمها لي بأبهى الحلل...
هذه هي حضارتكم التي الحاضر تشغل فكري بالطريقة التي يجب أن أتّبعها كي أخفي عيوب جسمي، لأنّي لا أجدها إلّا ثياباً ممزقة لبستها قسراً لأنّي ابنٌ لهذه الأمة...
هذه هي الحضارة التي تشغل بالي في المستقبل وأنا لا أراه إلّا أمماً تبتلعها... أممٌ نقلت عن أجدادنا الحضارة، فصرنا اليوم بحاجةٍ إليها لكي تبقينا موجودين على الخارطة...
هذه هي أمّتي التي كان لي شرف الانتماء إليها قبل أن أعرف الحقيقة...
أمّةٌ ملأها الفساد والشر صار فيها في كساد...
أمّةٌ يعيش فيها أناسٌ في ضروب العمالة صاروا آلاف الأجناس...
أمّةٌ أزيحت فيها الحريّة لتحلّ الفرديّة...
أمّةٌ أعدمت فيها الأخلاق فسقطت معها قيمة الإنسان...
أمّة مظاهر... أمّة طائفية... أمّة تتجه إلى الهلاك...
أمّة حضارتها حضارة ملوكٍ ومماليك...


د. ساسين ميشال النبّوت

الخميس، أيلول ٠٨، ٢٠٠٥

الأبطال...

سرت في ليلةٍ من ليالي كانون الحالكة لأواسي السواد الذي غمر نفسي بسواد الطبيعة... ووصلت الى الوادي ملعب الصِّبا، حيث وجدت البرد يبعث الشلل في مياه السواقي مجمّداً خريرها... وأدركت شجرة الصفصاف التي تدلّت أغصانها كما تتدلّى حبال الثريّا مغطاةً بالبلّور... حيث كانت لي عادة الجلوس لأتأمّل قريتي...
وكانت في تلك الليلة تغطّ في سكونٍ رهيب، لم يكن يعكّره إلا صوت حيوانٍ جائع... كان يصرخ منادياً الموت ليحلّ على طريدته... فنظرت لأبحث عمّاذا يمكن أن يجد حيواناً في مثل هذه الساعة وهذا الطقس... وإذا برجلٍ يخرج من بيته بحثاً عن الفأس ليقطّع حطباً لمدفأته... فإذا هي بيد الموت تنقض على رقبته فكّين فولاذيين، فقُطّع أشلاءً...
هالني ما حصل لهذا الإنسان الذي خرج ليرفع أصابع البرد عن عائلته، فإذا بأصابع الموت ترفع روحه إلى السماء...
خرج أهل بيته ليجدوه أشلاءً هامدة... وتجمّع أهل القرية... وعلا اللعن والسباب... وقام أهل النخوة باللحاق بالحيوان دون جدوى...
كانت الأفواه مشدوهة... والغضب عارم... يا له من وحشٍ مفترس...
ودار التحرّي... وطالت ألسنة الفلاسفة... فخلص الجميع في اليوم التالي إلى أنّ هذا الوحش قدم من جهة أرضٍ يملكها أناسٌ سكنوا القرية منذ القدم، لكنهم ظلّوا "الغرباء"...
فعلا اللعن والسباب عليهم... هم السبب... هم السبب... لو أنّهم أقفلوا سياجهم لما حصل ما حصل...
وطبعاً، كلّ هذا كان على مسمع عائلة الفقيد...

طوى التراب صفحات حياة الرجل، وفتح في عقول الناس كتب النسيان... لكن ليس في عقل ابنه البكر الذي كان في الخامسة وقتها... فقد سمع ما قيل عن موت أبيه... ومع الأيام كبرت الرغبة بالانتقام لتنفيس الحقد الذي بات ناضجاً، وغير قادرٍ على احتمال البقاء في سجن الوقت... فراح يبحث عن أيّ منفذ...
وشاءت الأقدار أن دخلت إحدى أغنام الشاب في حقل العدو، الذي ترك سياجه مفتوحاً في نفس المكان الذي تسلّل منه الوحش... فطردوها باللعن والسباب... على صاحبها وأهل صاحبها...

في ليلة ذلك اليوم من أيّام الصيف، وبينما كنت أسير وحيداً في ذاك الوادي الصغير قرب مجرى المياه، لأمتّع أذنيّ بخريرها، وأعوّد قدمي على السير على الأشواك والحشائش اليابسة، التي كانت تكسوها قطرات الندى كلآلئٍ زاد من بريقها ضوء البدر القابع في السماء... سمعت صراخاً طغى على الخرير وطقطقة الحشائش... وكان الشاب يقترب أكثر فأكثر من بيت اللذين تربّى على أنّهم أعداؤه... ثم سمعت صوت ستّ طلقاتٍ ناريّة، كانت كافيةً لتنزع حياة هذه العائلة "الغريبة"...
ستّ طلقات أفاقت أهل القرية من سباتهم العميق، فخرجوا ليرفعوا الشاب على الأكف، وعلت الهتافات: هذا هو البطل الذي أراحنا من هؤلاء...

نظرت بأسىً إلى الجدول، وكانت الدماء تصبغ ماءه بالأحمر، لأنّ بيت تلك العائلة كان عند رأس الغدير... والدماء التي هُدرت خَرجت من البيت، لتروي القصة لأزهار وأشجار الوادي علّها تجد من يبكيها...
فقلت في نفسي: جاء حيوانٌ جائع، علّمته غريزته أن يقتل ليأكل... فقتل رجلاً... وقال الناس هذا وحش... واليوم، جاء إنسانٌ علّمه الحقد كيف يقتل ليرتاح... فقتل ستّة... وقال الناس هذا بطل...
فما أقسى قلبك أيّها الإنسان وما أفظع هذا الوحش في نفسك...
ما أغرب هذا الظلام الذي يعمي عيونك عن المحبّة...
وما أكبر كرهك... ما أكبر كرهك أيّها الإنسان...
كرهك الذي لا يُعرف إن كان سببه الدين، أو الطائفة، أو العقيدة، أو المال، أو الوطنية، أو العرقية... لأنّ ما فعلته قتل الستّة: دينك وطائفتك وهما اللّه تعالى... عقيدتك ورأسمالك وهما المحبّة... وطنيّتك وعرقك وهما إنسانٌ من الأرض...

د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ٠٦، ٢٠٠٥

رجع أيلول...



إنّ الطبيعة مثل الناس، تنتظر الأوقات وإشارات السماء إيذاناً بالتغيير... فما أن يقال غداً يبدأ أيلول حتى تحسّ بالنسمات الباردة تسرح وتمرح بقربك... وما أنّ تدقّ الساعات الأرضية حتى ترى الغيوم قادمةً من كلّ حدبٍ وصوب... فيُنسى بيومٍ واحد لهيب آب ويبدأ العدّ العكسي لموسم الخير... على الأقل هذا ما كان يقال في القرى في الأيّام الخوالي...

وأما اليوم، في عصر السرعة والتكنولوجيات، من الذي يلحظ آب أو أيلول أو كانون؟... أو من يفكّر حتى بالمواسم في لبناننا وهو من تغنّى كتّابنا وشعرائنا بمواسمه؟... فلم يعد هناك من قرى... الأرض صارت بور... الأشجار يبست... والينابيع ضاعت مياهها في الأودية دون إيجاد من يستخدمها...

فكيف يلحظ هذا الشعب الدائم التأفف انتهاء فصلٍ وبدء آخر، إن كانت حياته مسيّرةٌ على المكيفات؟...
كيف سيلحظ أهميّة الفصول إن كانت الزراعة لا تعنيه... فهو لكثرة ماله يشتري كلّ شيءٍ من الخارج!!!...
كيف يهمّهم أيلول إن كانوا منزعجين من قدومه لأنّه يعطّل عليهم مشاوير البحر... ولأنّه يعني انتهاء أيّام التنبلة...


نعم أيّها الأعزاء، في الأمس كان الفرح يملأ قلوب الناس عندما يرون غيمة في البعيد... وكانت تدقّ الأجراس فرحاً عند هطول المطر... كانت الحركة تدبّ في الناس... فتراهم في القطاف... في المطاحن... يشمّسون على السطوح... يجمعون الغلال... يوضّبون... يخزنون...
واليوم قتل الروتين كلّ الناس...
فمن يريد الإجاص يشتريه في عزّ الشتاء... ومن يريد لبن العصفور تعصره له الماكينات...

فما فائدة دوران الأرض بعد؟... الشمس لم تعد تعنينا... وتغيير الفصول يغمّنا...
نحن نملك كلّ شيء... القوة... المال... الطاقة...
نعم نملك كلّ شيءٍ إلا القناعة...

فسلامٌ من القلب لك يا أخي أيلول وأهلاً بك في ربوعنا...
ولا تأبه... فالناس هم الناس... أعطهم كما كنت تعطيهم في السابق وأكثر... وعندما تذهب، لا تحزن ولا تبكِ... بل كن مرفوع الرأس... لأنّ كلّ عملٍ عملت يتمجّد به اسم اللّه...

د. ساسين ميشال النبّوت

الاثنين، أيلول ٠٥، ٢٠٠٥

طائر السنونو في أرض المهجر...

سأل السنونو أحد سكان المهجر الأصليين:
لماذا لا أستطيع الرؤية وأنا في بلاد النور، التي قصدتها بعدما غاب النور عن بلادي؟...
لماذا أرتجف من البرد وأنا في بلاد الدفء، التي جئتها بعدما حلّ البرد في بلادي؟...
لماذا أخاف الناس، مع أنّ أشكالهم لا تختلف كثيراً عمّن في بلادي؟...
لماذا أرتعب مع أنّني هنا في أمانٍ أكثر ممّا في بلادي؟...

فقال الرجل:
لأنّ النور في بلادنا لا يدخل عيوناً أغرقها دمع الفراق...
لأنّ الدفء في بلادنا لا يسير في جسمٍ أوقف الرحيل قلبه عن الخفقان...
لأنّ الناس في بلادنا وإن لم يختلفوا في الشكل عن بني وطنك، لكنّ عقولهم جدّ مختلفة...
لأنّ لا أحد يحسّ بالأمان إلّا في منزله حتى وإن كانت دعائمه من قش...

د. ساسين ميشال النبّوت

السبت، آب ٢٠، ٢٠٠٥

...المستشارون

قد تكون هذه الكلمات موجّهة إلى اللبنانيين لأنّها مستوحاةٌ من حياتهم ، ولكنّها مرسالٌ من خلالهم إلى كلّ العالم… وأعتذر للفظاظة من القريبين والبعيدين، كما من كلّ من يحسّ نفسه معنيّاً بكلامي...
لقد كتب لنا أيّها الإخوة منذ الولادة أن نكون محاطين بهذا الرتل الغير متناهي ممّن أسميهم المستشارين…
وكأنّا بحاجة لمن يقول لنا ماذا نأكل!… أو كيف نأكل!… أو متى نأكل!… أو كم نأكل!… وكأنّنا بحاجةٍ لمن يقول لنا من نحبّ؟… كيف نحبّ! لماذا نحبّ! أين، وكم ولماذا!!…
ومثل هذا يتدخلون بكلّ شاردةٍ وواردةٍ في حياة كلٍّ منّا… متى نسير! متى نتنفّس! متى نقول! متى نصمت! متى!!!... متى نعيش ومتى لا!...
نعم! إنّهم يغمروك بفضلهم وببروتوكولاتهم الغبيّة… ويلاحقوك من البيت إلى الأزقّة… كلامهم يطنّ في أذنك ويوجع رأسك وينكّد حياتك…
ولكلّ متى وكيف وكم… يخترعون قوانين، وآراء… ولكلّ ظرفٍ اختراع… وطبعاً الكلّ مصنّعٌ ليوجع لا ليريح… طبعاً… فهؤلاء المستشارين لا يعجبهم عجب…
مهما فعلت فأنت على خطأٍ…
وهنا أستذكر أحد نوادر جحا…
لقد كان صديقنا راكباً حماره وكان ابنه سائراً قربه على الأرض، فقامت قيامة الناس: ما هذا الأب الذي لا يملك ذرّةً من القلب… كيف يعقل أن يركب هو الحمار ويترك ابنه يسير على الأرض… يا له من طفلٍ مسكين…
فما كان من الأب الحنون إلّا أن نزل عن حماره، ليضع ابنه مكانه…
وما هو ردّ الناس؟
ما هذا الولد القليل التهذيب والذوق… كيف يقبل ركب الحمار بينما والده المسكين يسير على الأرض؟!...
فما كان من الولد أن نزل ليسير قرب والده الغاضب…
وما هو ردّ الناس الجديد:
أيعقل ما نرى؟… لماذا يمتلك الواحد منّا حماراً هذه الأيّام؟! أليس ليركبه؟…
فقام الرجل وابنه وركبا الحمار سويّاً…
ورد الناس كان: ما هذا الجيل الذي لا يرفق بالحيوان؟… انظروا كيف إلى انحناء هذا الحمار المسكين تحت ثقل هذين الغبيين…
فما كان من جحا وابنها إلّا أن نزلا أرضاً وحملا الحمار على كتفيهما…
ورد الناس أيضاً: يا إلهي… هذه نهاية العالم… الكلّ بالمقلوب… لقد جنّ ابن آدم حقّاً… فلا نذكر أبداً أنّ أحدهم أركب الحمار عليه…

هؤلاء المستشارين يبدو أنّهم تخلّوا عن كلّ عملٍ ليتفرّغوا لاستشاراتهم التي لم يطلبها أحدٌ منهم… أو ربّما استشاراتهم هذه هي واحدةٌ من شرور البطالة التي يعيشون في قلوبهم وحياتهم…

والعلّة أنهم لا يعرفون حدوداً… ولا يعرفون عواقب أقوالهم ولا تصرّفاتهم…
فكم من المرّات هدموا عائلات… وفرّقوا أحبّاء… وأعطوا شرارةً لغيظٍ أو لثأرٍ أو لقتلٍ… وفي كلّ الأوقات دعموا الخراب…
وهل يستطيع أيّ أحدٍ أن يقول أنّهم على خطأ… فهم دوماً على صواب… فمصادرهم ومراجعهم هي تلك العقليات الرجعية التي ورثوها دون فهمٍ لمعناها… وهم لا يقولون بحسبهم إلّا لحرصهم على مجتمعٍ أفضل… بنظرهم طبعاً… في حين يعرف كلٌّ منكم كم أنّ وطننا وأمّتنا الإنسانية هم بحاجةٍ إلى من يفعل للتطوّر، بينما هؤلاء الأبطال فعلهم الوحيد هو بألسنتهم النتنة…

فيا حضرات المستشارين، فصِّلوا الثياب لأنفسكم… لأنّ مقاييسي غير مقاييسكم… وحساباتي غير حساباتكم… وحياتي غير حياتكم…
يا حضرات المستشارين، احذروا وأبعدوا عنّي ألسنتكم لأنّي كالمبرد أبريها، فتعتقدون أنّكم متلّذذين بينما أنتم خاسرين…
يا حضرات المستشارين… يا أعوان إبليس… المحبّة الحقيقيّة ليس فيها رياء… ولا تعالي…
فاعملوا شيئاً بدل الجلوس طوال النهار… واطمئنّوا لأن كلّ الأمور تحلّ من دونكم إن تركتموها ترتاح…

د. ساسين النبّوت

الاثنين، تموز ١١، ٢٠٠٥

بتهوفن وموسيقانا...



ليس تقليلاً من قيمة المؤلفين الموسيقيين العظماء الذين أقدّر وأعشق موسيقاهم، لكنّ اسم بيتهوفن رافق ذاكرتي منذ الطفولة من خلال أحد الكتب التي قرأت وكان يتحدّث عن حياته ومؤلفاته... وعظمته...
لا أنكر أنّي قرأت هذا الكتاب عدّة مرّات، علّني أستطيع أن أسمع بعضاً من موسيقاه من خلال الكلمات، ولكن دون جدوى... ففي تلك الأيّام( الحرب الأهليّة السيئة الذكر)، لم يكن لي لا القدرة المادية ولا التقنية للحصول أو حتى سماع موسيقاه... فهل يمكن تصوّر ذلك؟... لم تكن منطقتنا مغطاةً إعلاميّاً إلا من التلفزيون العربي السوري ومن إذاعة مونتي كارلو وفي بعض الأحيان من تلفزيون لبنان... كما أنّي أذكر أنّ الراديو في بيتنا كان يفتقد إلى القدرة على قراءة الأشرطة الممغنطة... هذا بدون ذكر الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي...

ولسخرية القدر، أ وّل مقابلةٍ بيني وبين موسيقاه، كانت عندما مات أحد الزعماء... وطبعاً أعلن في حينها الحداد الرسمي، وتوقّفت كل البرامج... ما عدا الموسيقى الكلاسيكية...
هل تخالون طفلاً جالساً، مشخصاً في التلفاز... مركزاً على كلّ نوتة... والفرحة تملأ قلبه... بينما كلّ الناس يتأففون لأنّ وسيلة الترفيه الوحيدة لديهم قد توقّفت...
كنت أنا هذا الطفل...

نعم... كطفلٍ لم يكن يهمّني إن أتى الزعماء أو رحلوا... كنت أنتظر موسيقاه بفارغ الصبر... وفي كثيرٍ من الأحيان لم يطل انتظاري...

وأما اليوم فقد اختلفت الأحوال... فأصبح لدي المجموعة الكاملة لأعماله ولأعمال كثيرين من العظماء الكلاسيكيين... ولا يزال ولعي بالموسيقى الكلاسيكية في المرتبة الأولى...
كما قد تطورت علاقتي مع هذه الموسيقى... وجلّ ما أعشقه اليوم هو الاستماع إليها بينما أكون سائراً في الغابات وعلى قمم الجبال... بين الأزهار في الحقول... لماذا؟... لأنّني أستطيع قراءتها بينما أكون محاطاً بالصمت... ولأنّها تكتب نفسها بنفسها على صفحات الرياح والأشجار والينابيع والحقول...

وأمام الفورة الغير طبيعية للمطربات والمطربين، وشيوع سرقة الألحان، والاتهامات، وحرب الدلال والأصوات الجميلة... أخال الدموع تملأ عيون بتهوفن وموزار وشوبين... وغيرهم من العظماء... خصوصاً أمام التفاهة والمستوى الجاهل للمؤلفين الموسيقيين وكتّاب الأغاني...
فقد انتهت الكلمات، التي تحوّلت تكراراً مميتاً... ولم يعد يهمّ اللحن كما يهمّ الغنج وهزّة الخصر، وقُصر الفساتين...

نعم...
موسيقى الأمس كانت ولا تزال تتكلّم، وستبقى إلى الأبد...
وأمّا موسيقى اليوم فيسكتها الكلام التافه، ولا تدوم أكثر من طول سيقانٍ عارية...

الأحد، تموز ١٠، ٢٠٠٥

صخرة ...

قامت الصخرة لتحيّي الصباح كما يفعل كلّ ما على الأرض ، قامت متكبّرةً رافعةً رأسها كالعادة لأنّها الأقوى ، الأقوى الذي يستطيع الوقوف في وجه حرارة الشمس ، في وجه الماء والنار والرياح ، الأقوى الذي لا شيء يقدر أن يقتله ، قامت فوجدت الإنسان واصلاً إليها . هي من لم تكن قد رأته قبلاً ، لأنّها كانت تعيش في الوديان البعيدة ، التي لم تكن رجله قد وطأتها بعد ، فدفعتها حشريّتها للإستفسار عنه وعن مدى قوّته . فسألت الأشجار : من هذا ؟فقالت : أخبرتنا النسمات ، التي كانت تهزّ أوراقنا ، عن لسان أقربائنا في البعيد ، أنّه هو من يقطّعنا حطباً ليتدفّأ علينا ونحن نحترق في موقد شتائه ، فارتاحت لأنّها لا تقطع ولا تحترق .ثمّ سألت النهر : من هذا ؟فقال : أخبرتنا الينابيع أنّه من حكمها وسيّرها على هواه ، ليروي بمائها عطشه وعطش زرعه وبهائمه ، وليغسل بها أوساخه ، فارتاحت لأنّ لا ماء فيها ، إرتاحت رغم تعجبّها من قدراته هو صاحب الحجم الصغير. فراحت تكمل تحقيقها سائلةً الحيوانات : من هذا ؟فقالت : هو ملك الغابة ، هو أدهى من ثعالبها وأشرس من ذئابها الجائعة ، هو من يثقل كاهلنا بأعماله ويقتلنا ليشبع جوعه . فتنفّست الصخرة الصعداء لأنّها لا تتحرّك ولا تؤكل ، تنفسّت الصعداء وخوفها يزداد كلّما تقّدمت في تحقيقها عنه ، تحقيقها الذي لم يبق فيه للاستجواب غير التراب فسألته : من هذا ؟قال التراب : هو يستغلّ مكوّناتي ليحكم بها العالم ، لكن مهما كان ، فهو منّي كما أنت منّي ، هو سيعود اليّ كما ستعودين أنت ، لكنّ عمرك أطول من عمره . ففرحت قليلاً ، لكنّ نظرات الإنسان لها ولمساته أثارت في جسدها الرعب ، الى أن ابتعد عنها ليعود من حيث أتى .

في صباح اليوم التالي ، وككلّ يوم حيّت الصباح ، لكنّها من جديد وجدت الإنسان قادماً ، وفي يده مطرقةً وإزميل . اقترب منها ، وراح ينقر فيها طول النهار ، فقطّع أطرافها ، وهندس شكلها ، حتّى صارت تمثالاً يشبهه ، وعندما إنتهى ، إقترب من النهر ، فشرب ، وحمل منه ماءً ليغسل عنها الغبار ، ثمّ قطّع شجرتين ، وصنع منهما عربةً ، ربطها الى حماره ، حاملاً بها الصخرة ، التي صارت تمثالاً ، الى بيته .

على الطريق ، كانت الصخرة تنظر بيأس الى أشلائها ، التي في يومٍ من الأيّام قاومت كلّ عوامل الأرض ، أشلائها التي إبتعدت عنها الآن بسبب الإنسان . كانت تنظر باكيّةً وهي تقول : يا ليت كان لي فكر الإنسان مقابل كلّ مظاهر القوّة التي كانت لدي ، قالت ذلك بينما كان الإنسان راكباً على حماره وهو يقول : آه لو كانت لي قوّة كقوّة هذه الصخرة لكنت فعلت أشياء كثيرة .....

صرخة وحش...

كان هناك وحشٌ قويّ جدّاً ، وقوّته أعطته عريناً كبيراً سكنته أجناسٌ متنوّعة بضعفها، وكان يشلّها مجملة كي يحكمها ويأكلها هو من لم يختر منها إلّا الأكثر ضعفاً لأنّها الأكثر ليناً على اسنانه والأكثر عدداً ، وكان يترك الأكثر قوّةً لأنّه كان يساعده في حكمه وقويّ الضعاف استمرّ لأنّه كان يعيش على فتات القوي لكنّه لم يستطع يوماً شيئاً دونه .في يومٍ من الأيّام طلبت عيناه حيواناً ضعيفاً ليأكله، فقال له أحد خدّامه : لقد أكلتهم كلّهم وعظامهم صارت غباراً في الهواء، ومن لم تأكلهم هربوا وتركوك فإنقضّ عليه وقطّعه إرباً .دبّ الذعر في قلوب الأقوياء الضعفاء عندما شاهدوا طيف الموت أمام أعينهم وعلموا أنّ دورهم آتٍ وأنّهم سيحلّون محلّ الضعفاء على مائدة سيّدهم .

فقامت جماعةٌ منهم تطلب الإذن بالرحيل فرحّلها الى العالم الآخر، وجماعةٌ أخرى توقّفت قلوبها من كثرة الخوف، وأخرى رضيت بالمصير الذي كانت تعرفه منذ أن بدأت طريقها معه وماتت أيضاً .وقف الوحش عندها ونظر الى نفسه ثمّ قال : أنا قويّ وما من قوّة تغلبني...فلم يردد كلماته إلّا الجبال لأنّه لم يكن محاطاً إلّا بجثث هامدة والجثث لا تردّد الأصوات...

ثمّ قال : أنا جميل فلم يردّه أحد...

ثم قال : أنا غني فوجد غناه أراضٍ شاسعة بات مجبراً على العيش فيها لوحده... لوحده مع روائح الجثث وأشباحها التي نقّضت عليه حياته...هكذا صار الوحش القوي الحاكم حزيناً وهزيلاً...

هكذا صار الذي لم يحسب في يومٍ من الأيام ماذا سيأكل جسداً مصّ الجوع كلّ ما فيه من قوّة، فوقف على جبلٍ كبير وقال بنبرة كان لا يزال فيها بعض أطلال القوّة لأخٍ له كان يعيش في عرينٍ آخر : هل عندك يا أخي ما أسدّ به جوعي ؟
قال الآخر : لا يا أخي فقد أعماني الطمع كما فعل بك ، أعماني فنسيت أنّي أقطع الأعناق وأقطع الأرزاق في آن الى أن فقدت كلّ شيء ... لكن لا يزال هناك في ذاك الوادي السحيق بعض الجثث التي رميتُها في هاوية الفقر والعبوديّة والألم والحزن... إقفز الى هناك علّك تجد فيها شيئاً يرضيك ...
فسمع الوحش الذي خار من الجوع كلام أخيه وقفز الى هناك ، الى هاويةٍ لم يكن يعرف أنّها هاوية أخيه...سقط الى الهاوية فتساوى مع الآخرين بالموت ، بموت المادة ...عندها صرخ الوحش الآخر صرخة النصر... صرخة دوّت مثل الرعد في تلك الوديان... صرخة لم يكن يعلم أنّها بداية موته لأنّه أيضاً صار وحيداً...

الوصايا العشر...

1- الصمت خيرٌ من الكلام... كما أنّ خير الكلام ما قلّ ودلّ... لذلك تكلّم أقلّ بكثير ممّا يجول في فكرك...
2- أحبب الناس من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك... فتكون قد أحببت اللّه كذلك...
3- إفرح مع الفرحين، وابكِ مع الباكين...
4- إجعل الناس يحسّون بمدى أهميّتهم في نظرك، ولا تُحجب محبّتك عنهم...
5- إفتح قلبك للّه والناس...
6- لا تجعل ما يضغط عليك باباً للإنتقام من الآخرين...
7- إحفظ آلامك في داخلك، ولا تُرِ الناس إلّا أفراحك...
8- إفتح عين قلبك كي لا تبقى قابعاً في الظلام...
9- لا تنساق وراء الغضب والحزن...
10- سِر في النور ولا تخشى الظلمة، فلا بد من أن تشرق الشمس...

الجمعة، تموز ٠٨، ٢٠٠٥

لماذا؟...

كم مرّت عليّ من حالات تمنيت لو أنّ في يدي عصاً أزيح بها الظلم عن الناس... لو أنّ كلّ السلطة في يدي فأوقف الدموع في مآقي البشر...
وإن كنت قد كتبت اليوم ردّاً لما شعرت به وأنا واقف بلا حراك أمام إحدى زميلاتي التي حرمت جوراً من مركزٍ قضت أيّاماً وأيام حالمةً بالحصول عليه... وما إن حان موعد أخذه حتى تغيّر القانون ظلماً لمصلحة آخرين... ولم يُتح لها خيارٌ آخر، فدخلت في معركةٍ غير متكافئة كانت نتائجها محسومة سلفاً...

إنّي أؤمن بأنّ ما يحصل مع الإنسان وإن كان قد رأى مرحليّاً بأنه ليس لمصلحته، قد يكون الأفضل له على المدى البعيد...
لكن ما أرفضه هو أن يكون لناسٍ أن يأكلوا الحصرم ولغيرهم أن يـأكلوا البقول... ما أرفضه هو ظلم الناس...
لو أنّ كلًّ منّا يرى نفسه أولاً، ويصوّر لنفسه ما هو إحساس الأخ الواقف تحت رحمة قراره غير المسؤول، لكان كلّ شيءٍ بألف خير...
لكن أين هي اليوم هذه الأخوّة التي أتحدّث عنها؟... هذا الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين؟...
لماذا علينا أن نبكي؟...
أرجوكم، لا تقولوا لي أنّ اللّه هو الظالم... فكلّ قطرة دمع ذرفها إنسانٌ منذ آدم حتى اليوم هي من فعل إبليس، ومن فعل تعاون كلّ بشريٍ معه آثر حرق الآخرين لكي يبقى جاثماً على كرسيٍّ ما، ودوماً أعلى من أخيه الآخر... وليس هذا فقط ، بل الأخطر من ذلك التلذذ بالظلم، والنشوة من إغراق الآخرين... ربّما إثباتاً لنفوسهم بأنّهم العظمة بحدّ ذاتها، ناسين طبعاً الموت فساعة الحساب...

أرجوكم، لا تقولوا لي أنّه ليس هناك من أناسٍ مستضعفين تهدر حقوقهم على مدار الثواني في كلّ أقطار الأرض... خصوصاً في الأمكنة حيث ما من حسيبٍ ولا رقيب... حيث قوة القوانين البشرية تطبّق إستنسابيّاً...

وكي لا يكون كلامي موجّهاً للآخرين فإني أشمل وأنتقد نفسي في نفس الوقت...

هل سبق لواحدٍ منّا أن لامس الشعور بالذل والمهانة؟... هل سبق لأحدنا أن دُمّر أحد أحلامه؟... دُمّر أمام ناظره... أنا أكيد من الجواب بنعم...
ولكن، هل في كلّ مرّة سنحت لكنا الفرصة لتحقيق حلم أخٍ في الإنسانية، ساعدناه وقدّمنا كلّ ما لدينا؟... أم أنّنا في هذه الحالة نتنكّر ونصبح شركاء في الظلم؟... أنا أكيدٌ من أنً كلّاً منّا هو شريكٌ فيه وإن أزعج هذا الكلام كثيرين...
نعم، نحن شركاء حتى بصمتنا... خصوصاً بصمتنا...

قصّة مَلِك...

كان لأحد الملوك إبنٌ وحيد، توفي إثر حادثٍ مؤلم... فحزنت المملكة لسنين عديدة... وعندما مات الملك ولم يكن له من وريث، طرحت أملاكه كلّها في المزاد... فاجتمع سكان المملكة من كلّ حدبٍ وصوب لشراء الأملاك... وعند بدء المزاد، كانت صورة إبن الملك أوّل ما عُرض... فتذمّر الجميع، ولم يرتفع صوتٌ واحدٌ لشرائها... إلى أن ارتفع صوتٌ من إحدى الزوايا واضعاً لها سعراً كبيراً... فهزئ الجميع منه... وقد كان الشاري بوّاب القصر الذي عاشر الأمير منذ طفولته... وما إن رست الصورة له، حتى قام المحامي وأعلن انتهاء المزاد كما كتب الملك في وصيّته، بتحويل كلّ أملاكه إلى من يأخذ صورة ابنه...

الأحد، تموز ٠٣، ٢٠٠٥

من زوّادة اليوم، صوت المحبّة...

في يوم من الأيّام رميت القطعة الحديديّة من الفأس في إحدى الغابات... فارتعدت فرائص الأشجار من الخوف... واجتمعت لتدارك الأمر... فما كان من إحدى الشجرات الحكيمات أن قالت: في الحقيقة، لا يجب أن تخافوا من قطعة الحديد تلك... ما يجب أن تخافوا منه هو أن يخون واحدٌ من أغصانكم، ويكون لها يداً...