This website is being formatted... please be patient until we finish our upgrading...

الخميس، أيلول ٠٨، ٢٠٠٥

الأبطال...

سرت في ليلةٍ من ليالي كانون الحالكة لأواسي السواد الذي غمر نفسي بسواد الطبيعة... ووصلت الى الوادي ملعب الصِّبا، حيث وجدت البرد يبعث الشلل في مياه السواقي مجمّداً خريرها... وأدركت شجرة الصفصاف التي تدلّت أغصانها كما تتدلّى حبال الثريّا مغطاةً بالبلّور... حيث كانت لي عادة الجلوس لأتأمّل قريتي...
وكانت في تلك الليلة تغطّ في سكونٍ رهيب، لم يكن يعكّره إلا صوت حيوانٍ جائع... كان يصرخ منادياً الموت ليحلّ على طريدته... فنظرت لأبحث عمّاذا يمكن أن يجد حيواناً في مثل هذه الساعة وهذا الطقس... وإذا برجلٍ يخرج من بيته بحثاً عن الفأس ليقطّع حطباً لمدفأته... فإذا هي بيد الموت تنقض على رقبته فكّين فولاذيين، فقُطّع أشلاءً...
هالني ما حصل لهذا الإنسان الذي خرج ليرفع أصابع البرد عن عائلته، فإذا بأصابع الموت ترفع روحه إلى السماء...
خرج أهل بيته ليجدوه أشلاءً هامدة... وتجمّع أهل القرية... وعلا اللعن والسباب... وقام أهل النخوة باللحاق بالحيوان دون جدوى...
كانت الأفواه مشدوهة... والغضب عارم... يا له من وحشٍ مفترس...
ودار التحرّي... وطالت ألسنة الفلاسفة... فخلص الجميع في اليوم التالي إلى أنّ هذا الوحش قدم من جهة أرضٍ يملكها أناسٌ سكنوا القرية منذ القدم، لكنهم ظلّوا "الغرباء"...
فعلا اللعن والسباب عليهم... هم السبب... هم السبب... لو أنّهم أقفلوا سياجهم لما حصل ما حصل...
وطبعاً، كلّ هذا كان على مسمع عائلة الفقيد...

طوى التراب صفحات حياة الرجل، وفتح في عقول الناس كتب النسيان... لكن ليس في عقل ابنه البكر الذي كان في الخامسة وقتها... فقد سمع ما قيل عن موت أبيه... ومع الأيام كبرت الرغبة بالانتقام لتنفيس الحقد الذي بات ناضجاً، وغير قادرٍ على احتمال البقاء في سجن الوقت... فراح يبحث عن أيّ منفذ...
وشاءت الأقدار أن دخلت إحدى أغنام الشاب في حقل العدو، الذي ترك سياجه مفتوحاً في نفس المكان الذي تسلّل منه الوحش... فطردوها باللعن والسباب... على صاحبها وأهل صاحبها...

في ليلة ذلك اليوم من أيّام الصيف، وبينما كنت أسير وحيداً في ذاك الوادي الصغير قرب مجرى المياه، لأمتّع أذنيّ بخريرها، وأعوّد قدمي على السير على الأشواك والحشائش اليابسة، التي كانت تكسوها قطرات الندى كلآلئٍ زاد من بريقها ضوء البدر القابع في السماء... سمعت صراخاً طغى على الخرير وطقطقة الحشائش... وكان الشاب يقترب أكثر فأكثر من بيت اللذين تربّى على أنّهم أعداؤه... ثم سمعت صوت ستّ طلقاتٍ ناريّة، كانت كافيةً لتنزع حياة هذه العائلة "الغريبة"...
ستّ طلقات أفاقت أهل القرية من سباتهم العميق، فخرجوا ليرفعوا الشاب على الأكف، وعلت الهتافات: هذا هو البطل الذي أراحنا من هؤلاء...

نظرت بأسىً إلى الجدول، وكانت الدماء تصبغ ماءه بالأحمر، لأنّ بيت تلك العائلة كان عند رأس الغدير... والدماء التي هُدرت خَرجت من البيت، لتروي القصة لأزهار وأشجار الوادي علّها تجد من يبكيها...
فقلت في نفسي: جاء حيوانٌ جائع، علّمته غريزته أن يقتل ليأكل... فقتل رجلاً... وقال الناس هذا وحش... واليوم، جاء إنسانٌ علّمه الحقد كيف يقتل ليرتاح... فقتل ستّة... وقال الناس هذا بطل...
فما أقسى قلبك أيّها الإنسان وما أفظع هذا الوحش في نفسك...
ما أغرب هذا الظلام الذي يعمي عيونك عن المحبّة...
وما أكبر كرهك... ما أكبر كرهك أيّها الإنسان...
كرهك الذي لا يُعرف إن كان سببه الدين، أو الطائفة، أو العقيدة، أو المال، أو الوطنية، أو العرقية... لأنّ ما فعلته قتل الستّة: دينك وطائفتك وهما اللّه تعالى... عقيدتك ورأسمالك وهما المحبّة... وطنيّتك وعرقك وهما إنسانٌ من الأرض...

د. ساسين ميشال النبّوت

ليست هناك تعليقات: