This website is being formatted... please be patient until we finish our upgrading...

الثلاثاء، أيلول ٢٧، ٢٠٠٥

النحّات

كان هذا الرجل رفيق طفولتي، وقد أثبت منذ نعومة أظافره أنّه من المؤمنين بالطبيعة، ومن عشّاق الجمال والحياة فيها... وذلك عبر عاداتٍ غريبة لم يفهمها الناس... فاتهموه بأوصافٍ كثيرة... منها رجل الحجارة، لأنّه كان يذهب إلى الأرض البور ويعود منها حاملاً معه حجارةً وصخوراً من أشكالٍ وأحجامٍ متنوّعة... وكان يضعها أمام بيته ويقضي معظم أوقات النهار ناظراً إليها...
وقد كنت أفهمه... ولا ريب في ذلك، فقد كنّا نقضي أوقاتاً كثيرةً معاً... كنت أعرف أنّ هذه الأحجار تعني له الكثير... ولطالما أخبرني بكلّ ما يجول في خاطره... وكان دوماً يقول: هذه الطبيعة هي أعظم نحّات... فلها جلدٌ طويل، وقدرةٌ غريبة، وإبداعٌ لا يعرف الحدود... يا ليت تكون لي القدرة على فهم كلّ أسرارها المدفونة في ظواهر هذه الصخور...
وكنت أقول: ماذا يمكن أن تعني هكذا حجارة؟!... وكان يقول: أنظر إلى هذا الحجر الذي تملؤه الثقوب... إنّه ليدلّك على الكتلة القويّة التي نخرتها الأيام في نقاطها الضعيفة... فإن كانت لك يا صديقي نقاطٌ ضعيفة، لا تدع الأيّام تراها كي لا تسحقك لأنّك لست أكثر قوّة وصبراً من هذا الحجر...
أنظر إلى ذاك الحجر، إنّه كعجينٍ من الألوان، وهو يشبه بذلك الروح البشرية التي تتمازج فيها مجموعة من المتناقضات الغريبة...
أنظر إلى تلك الحجارة السوداء، ألا ترى أنّها بشعة؟... وأؤكد لك أنّ كلّ الناس يرونها كذلك... لكن أتعرف أنّ في نفس كلٍّ منّا واحدٌ وأكثر منها، ونحن لا نرَ أنّها بشعة لأنّها سبب فرحنا المادي...
أنظر إلى ذاك الحجر الضعيف المكسّر... إنّه مثلٌ للإنسان الضعيف الذي لا يستطيع الصمود أمام الضربات بسبب تركيبته...
أنظر إلى ذاك الحجر الذي كسرته نصفين، فوجدت أنّ له من الخارج لون ومن الداخل لونٌ آخر... أوليس مثالاً للإنسان الذي يخدعك بمظهره...
آه يا رفيقي! لا أقدر أن أرى جماداً كما يقولون له... لا أقدر أبداً فأنا أعتبره غير موجود بسبب عشقي للحياة التي أراها في كلّ مكان... ولهذا اخترت أن أكون نحاتاً... لأنّي عرفت أنّ الناس لا يصدّقون أقوالي، فحوّلت الصخور إلى نساءٍ جميلات، ورجالٍ أقوياء، وعظماء ومفكّرين... وكلّ ذلك كي أقرّب لهم الصورة التي أرى...

فقلت له: على البوّابة الفاصلة بين واقع حياة الإنسان وعمق نفسه صخرةٌ كبيرة... تمنع الشخص الحي من رؤية الإنسان الحقيقي... فهل تستطيع أن تنحت صورةً لهذا الإنسان على الجهة الواقعية من هذه الصخرة... كي يرى الشخص جمالها فيوافق على فتح البوابة...
فقال: يا ليت!... هذا كان ليحصل لو أنّي أملك الكلمات أزميلاً، والجرأة والقدرة مطرقة...
د. ساسين ميشال النبّوت

الجمعة، أيلول ٢٣، ٢٠٠٥

رسالة إلى الصيّادين...

درجت العادة في بلادنا بأن نستقبل كلّ الطيور العابرة بزغردات النار والرصاص... بعد أنقضينا بشكلٍ شبه تام على كلّ ما نملك من ثروةٍ حيوانيّة بريّة... فلا السنونو ولا الوروار ولا البط ولا البجع ولا الفرّي ينفد بريشه... إذ قد بُرمجنا على إسقاط كلّ ما يطير!!... وتحوّلت هذه العادة من مجرّد رياضة إلى إبادةٍ جماعيّة... حتى صار البعض يرفض العودة إلى منزله وليس في الجعبة مئات ومئات من القتلى...
حقاً صرنا نشتاق لنرى العصافير... للأسراب وهي تشقّ سماء قرانا...
لقد اشتققنا لصوت الطيور يوقظنا كلّ صباح...
وقد ضجرنا من الاستفاقة كلّ يومٍ على صوت الطلقات الناريّة...

يا إلهي! حتى الطيور في بلادنا تفتقر إلى السلام...
لو أنّ أحدكم يذهب إلى الخارج، ويرى كيف أنّ الطيور بكافة أنواعها تسير بين الناس بلا خوفٍ ولا خجل...

في بلدان الاغتراب تحترمون القانون... وأمّا في بلادكم فلا تعرفون إلا التسيّب وعدم المسؤولية...
لقد ذهبت إلى هناك... ولم أجد شرطياً واقفاً ليراقب كلاً منكم...

اليوم الرسالة رسالتين... الأولى رجاءٌ بالتخفيف من حدّة الاهتياج والابتهاج... والأخرى هي ترك الطيور العابرة وشأنها...
لماذا؟!
لقد سمع الكثيرون منكم بأنفلونزا الطيور... فما أريد منكم معرفته هو أنّ هذه الطيور القادمة بمعظمها من مناطق موبوءة مثل روسيا وإيران وبلدان آسيا الوسطى، تحمل معها الفيروس وإن لم تكن مريضة ... وبإنزالها في بلادنا نكون قد نقلنا بسهولةٍ غير متوقّعة هذا المرض الخطير الذي أثار ويثير الرعب في كلّ الدول الآسيوية كما في كلّ العالم...
فتوقّعوا إجراءً من وزارة الصحة كما من منظّمة الصحّة العالمية... وتوقّعوا أيضاً أن ينفذ قانون منع الصيد، الذي يؤسف انّه موجود، لكنّه كغيره من القوانين قابعٌ في أدراج الحكومة، منتظراً الحقيقة والفرج...

د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ٢٠، ٢٠٠٥

ترابٌ يبكي...

قال الميت:
صرت تراباً في القبر حيث رميت لأبقى وحيداً...
وحيداً بعد أن قضيت أيّامي بين الناس...
قضيتها فانطبعت حياتي على كتبٍ في عقولهم...
حياتي التي لم يبقَ منها إلا ما علِق على تلك الكتب من ذكريات...
أوراقٌ قرأها عنهم الجهد والهم والانشغال...
قرأها فمزّق ما تبقى منها...
ما تبقى الذي صار ضعيفاً فطار مع رياح النسيان...
رياحٌ هبّت مع مرور الأيّام فمحت أيّامي...
أيّامي التي نقّبت فيها هذه الأرض...
نقّبت فحوّلت التراب ببذار المحبّة إلى خبزٍ للأجيال...
التراب الذي صرته الآن...
صرته فإذا بي سجينٌ في قفص القبر...
سجينٌ لا ينفع الأحياء كما ينفعهم التراب الحقيقي...
الأحياء الذين أنتظر مرورهم قربي...
أنتظر لأرى إن كان هناك من ينبض قلبه بالحياة...
إن كان هناك من سيخرج ترابي من القبر، من النسيان...
إن كان هناك من سيخرق الخوف ليبذر بذاره عليّ في أرضه...
إن كان هناك من يهتمّ لأمري فيجعلني أستمرّ بإعطاء الخبز للأجيال...
من يجعلني أحسّ من جديد بالحياة... الحياة... آه!!! وراح التراب يبكي ويبكي...

فقلت:
ها هو التراب يبكي لأنّ أحداً منّا لم يأبه له...
هو من كان في يومٍ من الأيام ممتلئاً بالحياة...
من يحنّ في كلّ يومٍ إلى الحياة...
يحنّ إليها ويحبّها أكثر ممّا يفعل أحياءٌ مثلنا...
أحياءٌ بكوا على القليل الذي ضاع ولم ينظروا إلى الحبّ، إلى المعرفة، إلى العمل...
لم ينظروا إلى الحياة... كي يفرحوا بها... كي يحبّوها...

هذه الكلمات هي لكلّ من تكسره الصعوبات كي لا يستسلم...
لكلّ من يغرقه الحزن كي لا يختنق...
لكلّ من يحسّ بالألم كي يحبّ الحياة...

د. ساسين ميشال النبّوت

الأربعاء، أيلول ١٤، ٢٠٠٥

إنسان...

سرت على طريق الحياة، طريق التراب...
سرت مسرعاً فتطاير الغبار ورائي...
غباراً جعلني أتقدّم أكثر على من هم خلفي...
غباراً رقد رويداً رويداً ليغطيّ آثار أقدامي...
أقدامي التي كانت منهكة من الألم...
أقدامي التي كانت تغرق أكثر فأكثر في التراب...
التراب الذي منه ولدت والذي أعادني مع الوقت إليه...
التراب الذي أخفاني في لبّه بعد أن تقدّمت كثيراً...
تقدّمت فداستني أرجل من هم خلفي...
تقدّمت فصرت غباراً يتطاير خلف من كانوا خلفي...
تقدّمت ولم يبقَ منّي إلا تلك الذكرى...
ذكرى الإنسان...
ذكرى الروح التي لا تموت...


د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ١٣، ٢٠٠٥

وُلدت مريضاً

أنا الطفل الذي بكى من عصا الألم التي أهرت جسدي الضعيف مذ وُلد...
بكى من دموع أمّه وأبيه التي زادت من عذابي...

أنا الطفل الذي مرّ مثل نسمةٍ على حديقة البيت فمالت حشائشها بالأحزان...
مرّ مسرعاً على هذه الدنيا فلم يرَ فيها لا نوراً ولا ظلاماً...

أنا الطفل الذي مات دون أن تلوّث خطيئة الإنسان جسده...
مات تاركاً حضن أمّه الدافئ ليصل إلى السماء...

أنا الطفل الروح التي لم تستطع تحمّل أشواك جسمها فهربت منه...
الروح التي تركتكم وأنتم تبكون الفراق...

سامحوني لأنّي رحلت كي أصل إلى مكانٍ ليس فيه أوجاع...
سامحوني وافرحوا لأنّي وجدت ما كنت أبحث عنه...
افرحوا لأنّي سأصلّي لأجلكم من حضن اللّه...
افرحوا لأنّي اليوم عصفورٌ في الجنّة...
وأرجوكم ألّا تذرفوا لأجلي دموع حزنٍ بل دموع فرح...
ولا تقولوا أبداً أنّي لم أرَ يوماً جميلاً...
أيّامي كانت كلّها جميلة لأنّكم كنتم بقربي...

هذه الكلمات هي منّي إلى كلّ القلوب التي تلوّعت على أطفالٍ قضوا بسبب أمراضٍ لم يقوَ عليها علم الإنسان...

الأحد، أيلول ١١، ٢٠٠٥

حضارة الملوك والمماليك...

الحضارة... كلمة سمعتها للمرّة الأولى عندما قالوا لي أنّي ابنٌ لأرضٍ كانت مهد الحضارات... مهد الأديان والإنسان...
كنت أنظر إلى وجوههم الممتلئة فرحاً عندما يأتون على ذكرها... فرحت أتخيّل كيف سأخرج في الغد إلى أمتّي لأراها لابسةً ثوب هذه العظمة التي تغنّوا بها... رحت أفكّر كيف سأجد أجدادي في أبنائهم... باحثاً من كلّ قلبي عن ماهية هذا الشعب العظيم الذي مخر عباب البحر وأسس الدول... هذا الشعب الذي علّم العالم الحرف... الشعب الذي خرج منه قائد كهنيبعل... الشعب القليل العدد الذي قاوم الاسكندر، ومات دون أن يرضى بالاستسلام...
رحت أفكّر وأتشوّق حتى يحين ذلك الوقت...
ولم أكن قد حسبت له في الحقيقة حساباً... لأنّي كنت مشدوهاً بما تخيلت... إذ أنّي أصغيت حالي حال كلّ الأطفال إلى من هم أكبر منّي... فصدمت بما رأيت...

أيعقل أن تكون هذه هي العظمة التي كلّموني عنها؟... حضارةٌ أسيرةٌ في كتب التاريخ... أمّة يتحكّم بها ورثة الأمجاد الذين قضوا عليها وباعوا الباقي لأممٍ أخرى...
هل هذه هي الحضارة؟ هي التي حوّلت شعبي إلى ملوك...
ملوكٌ لم يعد العمل يعنيهم... بل حتى صار يهينهم... فالمماليك يفعلون كلّ شيءٍ عنهم... حتى تربية أبنائهم، وحملهم ورعايتهم...
حضارة ملوك لم تعد الأرض ذات نفعٍ عليهم، فهجروها وحوّلوها إلى مرمىً للنفايات بعدما كانت منارة للأمم...

نعم أيها الملوك... لقد اشتاقت أرض الوطن لعرق جبينكم... لا لرائحة المواخير التي أغرقتموها بها...
نعم أيها الملوك... لقد اشتاقت لمن يعطيها دون أن يفكر كم سيأخذ منها من أضعاف...

كيف تستطيعون رفع رأسكم بينما مماليككم أكثر منكم في وطنكم...
بماذا كنتم تتغنّون أمامي؟...
أبمجدٍ ضائع؟...
أبذكائكم الذي أخذه الغرب منكم بسعرٍ رخيص، لأنّه لا يوجد في بلاد الإقطاع من يريد الذكاء؟...
أبكرمكم الذي كان زائداً عن اللزوم، فقدّمتم وطنكم برخصٍ على مذبح الأمم...
أبتجارتكم التي لم يعد هناك من يثق بها لأنّ أهم ما تسوقوه هو الغشّ...
أبقوّتكم العسكرية ووطنكم تسرح فيه وتمرح على هواها كلّ أجناس البشرية...
أبمغتربيكم... وهم يصرخون من البعيد مطالبين بالجنسية وحق الانتخاب دون مجيب، بينما أنتم تعطون الجنسية وحقّ الانتخاب لمن لا يعرفون قيمة لبنان...
أبإرادتكم القوية التي سيطر عليها غيركم وخلعكم من مركز القرار...
أبوطنكم مهد الأديان الذي حوّلتموه إلى مزرعة طوائف...

أكنتم تتغنّون أمامي بأجدادكم؟... ألا تعرفون أنّهم لو دروا بحالكم لندموا على تأسيس هكذا أمّة؟... لكانوا باعوا دماءهم في بنوك الدم لو كانت موجودةٌ في أيامهم… لكان السعر الذي جمعوه أغلى بكثير ممّا دُفع لكم ثمناً لمن هدروا دماءهم لأجله...

هذه هي حضارتكم التي في الماضي شغلت فكري وخيالي... أنتم من رسمها لي بأبهى الحلل...
هذه هي حضارتكم التي الحاضر تشغل فكري بالطريقة التي يجب أن أتّبعها كي أخفي عيوب جسمي، لأنّي لا أجدها إلّا ثياباً ممزقة لبستها قسراً لأنّي ابنٌ لهذه الأمة...
هذه هي الحضارة التي تشغل بالي في المستقبل وأنا لا أراه إلّا أمماً تبتلعها... أممٌ نقلت عن أجدادنا الحضارة، فصرنا اليوم بحاجةٍ إليها لكي تبقينا موجودين على الخارطة...
هذه هي أمّتي التي كان لي شرف الانتماء إليها قبل أن أعرف الحقيقة...
أمّةٌ ملأها الفساد والشر صار فيها في كساد...
أمّةٌ يعيش فيها أناسٌ في ضروب العمالة صاروا آلاف الأجناس...
أمّةٌ أزيحت فيها الحريّة لتحلّ الفرديّة...
أمّةٌ أعدمت فيها الأخلاق فسقطت معها قيمة الإنسان...
أمّة مظاهر... أمّة طائفية... أمّة تتجه إلى الهلاك...
أمّة حضارتها حضارة ملوكٍ ومماليك...


د. ساسين ميشال النبّوت

الخميس، أيلول ٠٨، ٢٠٠٥

الأبطال...

سرت في ليلةٍ من ليالي كانون الحالكة لأواسي السواد الذي غمر نفسي بسواد الطبيعة... ووصلت الى الوادي ملعب الصِّبا، حيث وجدت البرد يبعث الشلل في مياه السواقي مجمّداً خريرها... وأدركت شجرة الصفصاف التي تدلّت أغصانها كما تتدلّى حبال الثريّا مغطاةً بالبلّور... حيث كانت لي عادة الجلوس لأتأمّل قريتي...
وكانت في تلك الليلة تغطّ في سكونٍ رهيب، لم يكن يعكّره إلا صوت حيوانٍ جائع... كان يصرخ منادياً الموت ليحلّ على طريدته... فنظرت لأبحث عمّاذا يمكن أن يجد حيواناً في مثل هذه الساعة وهذا الطقس... وإذا برجلٍ يخرج من بيته بحثاً عن الفأس ليقطّع حطباً لمدفأته... فإذا هي بيد الموت تنقض على رقبته فكّين فولاذيين، فقُطّع أشلاءً...
هالني ما حصل لهذا الإنسان الذي خرج ليرفع أصابع البرد عن عائلته، فإذا بأصابع الموت ترفع روحه إلى السماء...
خرج أهل بيته ليجدوه أشلاءً هامدة... وتجمّع أهل القرية... وعلا اللعن والسباب... وقام أهل النخوة باللحاق بالحيوان دون جدوى...
كانت الأفواه مشدوهة... والغضب عارم... يا له من وحشٍ مفترس...
ودار التحرّي... وطالت ألسنة الفلاسفة... فخلص الجميع في اليوم التالي إلى أنّ هذا الوحش قدم من جهة أرضٍ يملكها أناسٌ سكنوا القرية منذ القدم، لكنهم ظلّوا "الغرباء"...
فعلا اللعن والسباب عليهم... هم السبب... هم السبب... لو أنّهم أقفلوا سياجهم لما حصل ما حصل...
وطبعاً، كلّ هذا كان على مسمع عائلة الفقيد...

طوى التراب صفحات حياة الرجل، وفتح في عقول الناس كتب النسيان... لكن ليس في عقل ابنه البكر الذي كان في الخامسة وقتها... فقد سمع ما قيل عن موت أبيه... ومع الأيام كبرت الرغبة بالانتقام لتنفيس الحقد الذي بات ناضجاً، وغير قادرٍ على احتمال البقاء في سجن الوقت... فراح يبحث عن أيّ منفذ...
وشاءت الأقدار أن دخلت إحدى أغنام الشاب في حقل العدو، الذي ترك سياجه مفتوحاً في نفس المكان الذي تسلّل منه الوحش... فطردوها باللعن والسباب... على صاحبها وأهل صاحبها...

في ليلة ذلك اليوم من أيّام الصيف، وبينما كنت أسير وحيداً في ذاك الوادي الصغير قرب مجرى المياه، لأمتّع أذنيّ بخريرها، وأعوّد قدمي على السير على الأشواك والحشائش اليابسة، التي كانت تكسوها قطرات الندى كلآلئٍ زاد من بريقها ضوء البدر القابع في السماء... سمعت صراخاً طغى على الخرير وطقطقة الحشائش... وكان الشاب يقترب أكثر فأكثر من بيت اللذين تربّى على أنّهم أعداؤه... ثم سمعت صوت ستّ طلقاتٍ ناريّة، كانت كافيةً لتنزع حياة هذه العائلة "الغريبة"...
ستّ طلقات أفاقت أهل القرية من سباتهم العميق، فخرجوا ليرفعوا الشاب على الأكف، وعلت الهتافات: هذا هو البطل الذي أراحنا من هؤلاء...

نظرت بأسىً إلى الجدول، وكانت الدماء تصبغ ماءه بالأحمر، لأنّ بيت تلك العائلة كان عند رأس الغدير... والدماء التي هُدرت خَرجت من البيت، لتروي القصة لأزهار وأشجار الوادي علّها تجد من يبكيها...
فقلت في نفسي: جاء حيوانٌ جائع، علّمته غريزته أن يقتل ليأكل... فقتل رجلاً... وقال الناس هذا وحش... واليوم، جاء إنسانٌ علّمه الحقد كيف يقتل ليرتاح... فقتل ستّة... وقال الناس هذا بطل...
فما أقسى قلبك أيّها الإنسان وما أفظع هذا الوحش في نفسك...
ما أغرب هذا الظلام الذي يعمي عيونك عن المحبّة...
وما أكبر كرهك... ما أكبر كرهك أيّها الإنسان...
كرهك الذي لا يُعرف إن كان سببه الدين، أو الطائفة، أو العقيدة، أو المال، أو الوطنية، أو العرقية... لأنّ ما فعلته قتل الستّة: دينك وطائفتك وهما اللّه تعالى... عقيدتك ورأسمالك وهما المحبّة... وطنيّتك وعرقك وهما إنسانٌ من الأرض...

د. ساسين ميشال النبّوت

الثلاثاء، أيلول ٠٦، ٢٠٠٥

رجع أيلول...



إنّ الطبيعة مثل الناس، تنتظر الأوقات وإشارات السماء إيذاناً بالتغيير... فما أن يقال غداً يبدأ أيلول حتى تحسّ بالنسمات الباردة تسرح وتمرح بقربك... وما أنّ تدقّ الساعات الأرضية حتى ترى الغيوم قادمةً من كلّ حدبٍ وصوب... فيُنسى بيومٍ واحد لهيب آب ويبدأ العدّ العكسي لموسم الخير... على الأقل هذا ما كان يقال في القرى في الأيّام الخوالي...

وأما اليوم، في عصر السرعة والتكنولوجيات، من الذي يلحظ آب أو أيلول أو كانون؟... أو من يفكّر حتى بالمواسم في لبناننا وهو من تغنّى كتّابنا وشعرائنا بمواسمه؟... فلم يعد هناك من قرى... الأرض صارت بور... الأشجار يبست... والينابيع ضاعت مياهها في الأودية دون إيجاد من يستخدمها...

فكيف يلحظ هذا الشعب الدائم التأفف انتهاء فصلٍ وبدء آخر، إن كانت حياته مسيّرةٌ على المكيفات؟...
كيف سيلحظ أهميّة الفصول إن كانت الزراعة لا تعنيه... فهو لكثرة ماله يشتري كلّ شيءٍ من الخارج!!!...
كيف يهمّهم أيلول إن كانوا منزعجين من قدومه لأنّه يعطّل عليهم مشاوير البحر... ولأنّه يعني انتهاء أيّام التنبلة...


نعم أيّها الأعزاء، في الأمس كان الفرح يملأ قلوب الناس عندما يرون غيمة في البعيد... وكانت تدقّ الأجراس فرحاً عند هطول المطر... كانت الحركة تدبّ في الناس... فتراهم في القطاف... في المطاحن... يشمّسون على السطوح... يجمعون الغلال... يوضّبون... يخزنون...
واليوم قتل الروتين كلّ الناس...
فمن يريد الإجاص يشتريه في عزّ الشتاء... ومن يريد لبن العصفور تعصره له الماكينات...

فما فائدة دوران الأرض بعد؟... الشمس لم تعد تعنينا... وتغيير الفصول يغمّنا...
نحن نملك كلّ شيء... القوة... المال... الطاقة...
نعم نملك كلّ شيءٍ إلا القناعة...

فسلامٌ من القلب لك يا أخي أيلول وأهلاً بك في ربوعنا...
ولا تأبه... فالناس هم الناس... أعطهم كما كنت تعطيهم في السابق وأكثر... وعندما تذهب، لا تحزن ولا تبكِ... بل كن مرفوع الرأس... لأنّ كلّ عملٍ عملت يتمجّد به اسم اللّه...

د. ساسين ميشال النبّوت

الاثنين، أيلول ٠٥، ٢٠٠٥

طائر السنونو في أرض المهجر...

سأل السنونو أحد سكان المهجر الأصليين:
لماذا لا أستطيع الرؤية وأنا في بلاد النور، التي قصدتها بعدما غاب النور عن بلادي؟...
لماذا أرتجف من البرد وأنا في بلاد الدفء، التي جئتها بعدما حلّ البرد في بلادي؟...
لماذا أخاف الناس، مع أنّ أشكالهم لا تختلف كثيراً عمّن في بلادي؟...
لماذا أرتعب مع أنّني هنا في أمانٍ أكثر ممّا في بلادي؟...

فقال الرجل:
لأنّ النور في بلادنا لا يدخل عيوناً أغرقها دمع الفراق...
لأنّ الدفء في بلادنا لا يسير في جسمٍ أوقف الرحيل قلبه عن الخفقان...
لأنّ الناس في بلادنا وإن لم يختلفوا في الشكل عن بني وطنك، لكنّ عقولهم جدّ مختلفة...
لأنّ لا أحد يحسّ بالأمان إلّا في منزله حتى وإن كانت دعائمه من قش...

د. ساسين ميشال النبّوت