This website is being formatted... please be patient until we finish our upgrading...

الأحد، آذار ٢٦، ٢٠٠٦

مارد من بلادي



ماردٌ نعم... صفة أعطيت لأغنياءَ وفنانين وكتاب... وحرمت دون حق طبقة العمال والفقراء المقهورين... كأنّ فخر المواطنية هي في تملك المال أو أن تكون طبيباً ومهندساً...
لطالما نسي اللبنانيون أعمدتهم، واهتموا بالتطبيل والتزمير لمن يستحق ولمن لا يستحق...
كاملة... التي لن أنكر علاقتي الخاصة بها كونها تعيش قرب منزلي... والتي بدأت قصتي معها عندما كنت في الثالثة من العمر... في اليوم الذي استفاقت فيه القرية على مجزرةٍ إجرامية، نفذها من أخذوا من الأحزاب مطيّةً لتنفيذ مآرب شخصية، وكانت واحدة من ضحاياها إبنتها الوحيدة، والتي قتلت لأنها كانت تزور بيروت في بدايات الحرب (إذ كان لها أخٌ هناك)... ولأن من كان يزور العاصمة يعدّ عميلاً للكتائب...
أم الياس، كما يعرفها الجميع في القرية صغاراً وكباراً، حملت زوجها الكسيح وابنها، وهربت إلى بيروت التي كانت في عز الحرب البغيضة، تاركةً بيتها والأراضي التي تحيط به... الذي تحوّل إلى مركزٍ حزبي في غيابها القسري... لكن أشجار اللوز والزيتون لم تنتج، لأن المحتلين الذين تحلو في عيونهم الخضار والفاكهة، لا يحرّكون أنملاً للعمل... ولا يهمهم إلا الرخيص الذي لا يكلف جهداً...
في غياب وسائل الاتصال (التي كانت حتى محظورة لو توفرت للتعامل مع العملاء الخونة)، ضاعت العائلة وضاعت أخبارها...
انتهت الحرب البغيضة، وسلّم الحزبيون سلاحهم، والبيوت التي احتلوها، لكنّهم احتفظوا بأحقادهم الغبية التي لا أصل لها ولا فصل... وبما أنّ العائلة المسكينة كانت تعيش في زريبةٍ من زرائب بيروت، أجبروا على تسليمها لأصحابها، اضطرت للعودة إلى القرية مهما كان الثمن... بالأحرى لم يعد لهم من ثمنٍ ليدفعوه، ففي القرية خسروا البنت، وفي بيروت خسروا الإبن، ولم يبقَ إلا واحداً، فضلّ الموت والإهانة على أن ينام مع عائلته على الطريق، بينما له في القرية منزلٌ يتّسع لخمس عوائل...
كان مشهد ابنتها الوحيدة مرميّةً أمام غرفتها وهي مضرجعة بالدماء، هو أوّل المشاهد العالقة في ذهني عن وحشية الناس... وبالطبع لم أكن أذكر صورة الأم، لأنها هربت فوراً بعد الحادثة...
عندما عادوا، كان الحظر الإجتماعي لا يزال سائداً، رغم أن الحرب انتهت، لكن ليس للرابحين... لكن كان في داخلي حسٌّ بالشفقة والعار... دونما إنكارٍ لما لأمّي من دورٍ في ذلك... فكانت تحمّلني إليهم بعض اللوازم مع وصيّة "إحرص ألا يراك أحد"... ففي نظر الناس الشفقة على هؤلاء الأوباش جريمة، وما نالوه ليس سوى حفنةٍ من العقاب الذي يستحقون...
لكنّ الدم لا يمكن أن يصير ماءً، فمن زياراتٍ خاطفة، صرت أقضي معهم بعض الوقت، فتروي لي العجوز أوجاعها الجسدية التي تفوح منها رائحة الاكتئاب...
وكأنه ما من نهايةٍ للأوجاع، مات رجلها بعد صراعٍ عنيفٍ مع المرض، وبالكاد توفّر بعض الشباب لحمل نعشه إلى القبر...
اكتملت... فلم يعد هناك إلا أن تبقى وحيدةً في بيتها الصغير المحاط بالبساتين... والإبن مشغولٌ بعائلته الكبيرة العدد، ليعيلها بإمكانياتٍ متواضعة...
أم الياس لم تنسى أرضها، ولا أرضها فعلت... هذه المرأة الهزيلة، حملت في كلّ يومٍ معولها الصغير وسكّينها، وعملت من الصباح حتى المساء... لا يمكن أن تمرّ من أمام بستانها، إلا وتراها متربّعةً على الأرض، تنقب وتنقي وتشذب... جسدها دوماً ملاصقٌ للتراب... كانت تعمل دون توقف...
قطعة أرضها كانت حقّاً متعة للنظر... وأغصان أشجارها لا تأبى في كلّ عام إلا أن تكون منحنية من الثمار...
ولم يوقفها شيءٌ... بل ظلّت تعمل وتنتج رغم انهيار جسدها وتحذيراتي...
ما قالته لي قبل مماتها بأيّام: أتعرف ماذا أحسست عندما كنّا في بيروت؟... من قتل ابنتي، قتلني مرّة... وجبني قتلني مرتين، إذ اضطررت أن أرحل عن الأرض التي ولدت وعملت فيها... إسمعني يا بني، لا تبع أرضك مهما أعطوك من ثمن... نحن نجمّلها بعرق جبيننا، لكي تحضننا بحنان ساعة موتنا...

كي لا تكون أم الياس مجرّد امرأة مرّت في سجلات القرية، كتبت كلّ هذا... وأنا أعرف أنّها ماردة من بلادي، وبطلة مقاومة بامتياز... نعم بطلة رغم أنّها لم تحمل السلاح وتقتل، وماردة عظيمة رغم أنّها لم تضحّي بمليون لتربح عشرات الملايين... بل ضحّت بعائلتها لتربح فقط جنّة السماء...

ليست هناك تعليقات: