This website is being formatted... please be patient until we finish our upgrading...

السبت، آذار ١٨، ٢٠٠٦

حديث النعمة


كان لي في أيّام طفولتي صديقٌ أقضي معه معظم أوقاتي. في الصباح كنّا نسير معاً الى المدرسة عبر الكروم، وكانت رئتينا تمتلئ من النسمات الباردة ومن رائحة الأزهار. ثمّ نصل ونجلس قرب بعض حتى تنتهي ساعات الدراسة، ونعود في الطريق نفسها الى البيت.
كانت لنا ذكرياتٍ لا تنتسَ، وكان معظمها على شجرة الصفصاف التي قال العجائز في قريتي أنّها كانت قبل أيّامهم بكثير. هذه الشجرة التي كنّا نعرّج عليها في طريق عودتنا، لم يعد فيها مكان لأيّ شيءٍ آخر ، فقد حفرنا عليها بسكينٍ، سرقته من المطبخ دون علم أمّي، أسماء رفاقنا ورفيقاتنا في الصف، إضافةً الى جداول الضرب وحروف الأبجديّة الفينيقيّة التي نسيتها الآن، كما أسماء أساتذتنا الذين كانوا يمرّون في كلّ سنةٍ، ويتغيّرون لأنّ المدير الطمّاع كان يأكل حقوقهم، وعندما يطالبون بها ينادي على أساتذةٍ آخرين يقبلون بمعاشٍ أقل.ّ
لا أريد أن أشرد في حديثي ههنا عن الأساتذة، كي لا أظهر بمظهر من يحبّهم، لأنّي لم أعجب إلّا بالبعض منهم... أمّا الآخرون فكانوا لي مثل الآلات التي تفرغ محتواها على مدى ستّون دقيقة، ولا تعبّئ الطاقة إلّا في آخر الشهر.

كان الناس في القرية يقولون أنّنا سنكون طول حياتنا متشابهين... لكن دارت عجلة الأيّام ومعها كنّا نكبر بسرعة، فبلغنا المرحلة الثانويّة وتخرّجنا من المدرسة بنفس العلامات تقريباً، فإخترت أنا الانتقال الى العاصمة بيروت كي أتعلّم في الجامعة، أمّا هو فإختار السفر ليتعلّم رغم أنّ حال أهله كانت كحال أهلي، لا تحتمل بالكاد تكاليف التسجيل في الجامعة اللبنانية. فباع أبوه الأرض التي شقى أجداده ليشتروها ويحافظوا عليها، كي يؤمّن زاد إبنه الذي سيترك أرض الوطن.

سافر الإبن، ومنذ سفره إنقطعت أخباره. فهو لم يتصّل بهاتف القرية الوحيد ليقول أنّه وصل، ولم يكتب أيّ رسالة لا لي ولا لأهله، فماتت أمّه من همّ. فالبلد الذي ذهب إليه غرق في حربٍ أهلية ضروص، وأعاثت فيه العصابات فساداً. فأصيبت تلك العائلة بنكستين، عندما فقدت الإبن أوّلاً والأمّ ثانياً .

مرّت خمس سنوات أنهيت خلالها دراستي الجامعيّة، وتعيّنت أستاذاً في ثانويّة القرية. أمّا رفيق الصبى لم يعد ما يربطني به إلّا ذكرياتٍ قديمة، كنت أراها في كلّ يوم وأنا على طريق المدرسة. الى أن في يوم من الأيّام، وبينما كنت أقرأ الجريدة، فوجئت على صفحتها الأولى المخصّصة دوماً لمشاهير البلد، والحارمة الأقلام الفتيّة من الكتابة عليها، بصورة صديقي ومكتوبٌ فوقها : المليونير اللبناني الكبير يعود الى أرض الوطن بعد غيابٍ طويل. فطنّت كلمة طويل في أذني، أنا من يعلم أنّه لم يغب أكثر من خمس سنوات، فمن أين حصل على كلّ هذا المال ؟
دارت في رأسي ملايين من الأفكار السوداء التي تعرفونها جميعكم، لكنّي بدّدتها لأنّي تذكّرت أنّه هناك رجلاً شاحباً ذاب من الهمّ على إبنه الذي إختفى. فركضت لأزفّ اليه خبر العودة المجيد، دون أن آتي على ذكر حالته الماديّة .

مرّت ثلاثة أيّام على وصول الإبن الضال ولم يأتي بعد الى القرية. فخاف الوالد وسألني الذهاب الى المدينة لأبحث عنه. فنزلت عند رغبته.
في اليوم التالي لم أجد عناءً بالبحث عنه، لأنّ البيك صار معروفاً، وصارت حوله حاشية كبيرة من المتزلّمين. لكنّي للأسف لم أستطع الدخول اليه مباشرةً، بل إنتظرت أمام الباب فترةً، كانت طالت لو لم أقل إسمي للحارس الذي دخل ليطلب الإذن، فسمح لي بالدخول.
فوجئت بقصره الذي كانت أروقته كأروقة منازل القصص التي كنّا نقرأها سويّاً. وصلت الى المكتب حيث كان جالساً على كرسيّه الهزّاز، فقام قائلاً بلهجةٍ متعالية : أهلاً برفيق الصبى. فإنقضضت عليه معانقاً لكثرة الشوق ، شوقٌ الى الرفيق الذي غاب دون حتى أن يرسل قصاصة ورق واحدة، لكنّه لم يظهر أيّاً من هذه العواطف، فإبتعدت عن جسده البارد لأقول له : أين ذهبت كلّ هذه السنين ، ما الذي حصل معك ، لماذا تركتنا ؟.... وكان الجواب أنّه ترك العلم ليعمل. فسألته عن ماهيّة هذه الأعمال التي يمكن أن تجعل من شخصٍ فقير مليونيراً في خمس سنوات، لكنّه بقي صامتاً ومن صمته عرفت جوابه... هو من كان يقال عنه أنّه يشبهني، لكنّهم لم يعرفوا الفارق الوحيد بيني وبينه، وهو حبّه وولعه بالمال، ونقمته على الحياة التي يعيشها... فأوقفت حديثي معه لأقول له أنّ والده بإنتظاره... فضحك ضحكة غريبة، وقال أنّه سيذهب الى القرية في اليوم التالي لأنّ له فيها بعض الأعمال، وسيعرّج عليه في طريقه فإستودعته وذهبت الى القرية .

وصلت الى بيت والد رفيق الصبى، فوجدته على أحرّ من الجمر، وزففت اليه الخبر السار فطار من الفرحة... وراح يخبر كلّ من يجده على الطريق .

في اليوم التالي أحسست بحركةٍ غريبة في القرية، لأنّ الجميع، شباباً وصباياً، رجالاً ونساءً كانوا يتحضّرون للقاء البيك الذي وصل أخيراً، فعلت أصوات الشباب لتبجّله علّهم ينالوا عنده حظوة. والصبايا اللواتي كنّ بأبهى حللهنّ ، نحن من كنّا يوماً نتمنّى لو يتخلّين عن كبريائهنّ وينظرن الينا، رحن يرمقنه بنظراتٍ غريبة لم أر مثلها في حياتي. فمرّ إبن الخمس سنوات أمام الجميع رامقاً إيّاهم بنظرةٍ ساخرة... فسلّم عليه دون أن يسأل حتى عن أمّه التي ماتت في همّه، فحزن أبوه الهزيل وقال له : أهذا هو الإبن الذي ربّيته وتعبت لأجله ، الإبن الذي بعت لأجله أرض أجدادي، فلم يبقَ منها إلّا قطعةٌ صغيرة قضى عليها الجفاف، لأنّي أرسلت إبني الى الخارج كي أعلّمه، فلم أعلّمه إلّا التحجّر والتكبّر... فقال الإبن بلهجةٍ ساخرة : هاك ثمن الأرض مضاعفاً مرّتين مضافةٌ اليه أرباح السنين التي توقّفت فيها عن العمل. فردّ الأب بحرقةٍ شديدة : هل صار كلّ شيءٍ لديك يشترى بالمال... وغرق في دموعه، فبكت حجارة القرية ، لأنّ حديث النعمة نسي الأرض التي أنجبته...

خرج رفيق الصبى من منزل والده، وراح يعرض على الناس بيع أراضيهم، مقدّماً لهم أسعاراً خياليّة فباعوه الواحد تلو الآخر... بإستثنائي وإستثناء والده الذي حرمه من ميراث القطعة الصغيرة التي بقيت له، طالباً في وصيّته أن يكون قبره فيها... ومن لم يوافق على بيعه في القرية لحقه الى المدينة ليبيعها له ...

مرّت أيّامٌ قليلة فدخلت الجرّافات أرض القرية، التي تغيّرت معالمها كافّةً بعد أن هجرها أهلها... تغيّرت بعد أن جرفها البيك بأمواله، فلم تسلم منه حتى الشجرة التي كان لنا عليها كل ذكريات الطفولة... تغيّرت بعدما سكنها البناؤون، الذين راحوا يبنون مشروعاً ضخماً الى أن إكتمل بعد سنة... فصارت قريتي الصغيرة تعجّ بالأغنياء الوطنيين والأجانب، الذين أتوا سائحين ليروا جمال ربوع لبنان...
بعد سنتين من عودة الإبن الى الوطن، مات الأب الذي لم يرَ في حياته إلّا الحزن والشقاء... فأخذته مع من أتى من أهل القرية، ودفنّاه في المكان الذي طلبه في وصيّته. ثم عدنا الى الساحة حيث بنى البيك قصره، وسلّمناه رسالة من والده كتبها له قبل مماته، ولم يكن أحدٌ غيري يعرف ما فيها، فقرأ ما عليها بصوتٍ مرتفع : عندما تعود الى التراب، ستعرف قيمة الإنسان الذي كان يجب أن تكونه خلال حياتك، لكن للأسف عندها لا ينفع الندم... ولم يعرها أهميّة لأنّه برأيي يعتقد أنّ الأغنياء لا تطالهم يد الموت...

ليست هناك تعليقات: