هكذا عرفه الناس، حتى حجب لقبه اسمه الحقيقي، الذي لا يعرفه إلا قلّة من أهل القرية…
كان الحاج صاحب الدكّان الوحيد، يعتاش ممّا يجود عليه هو وزوجته وكلّ أهل القرية بدون استثناء إذ لم يكن لديه أولاد…
يذكره والدي مذ كان صغيراً… ولم تمرّ ليلة إلا وحدثتنا أمّي واحدةً من القصص، يكون في أغلب الأحيان هو وزوجته من أبطالها…
الكلّ يذكره بشعره الناصع البياض، وجنتيه الحمراوين، ضحكته وشرواله… وكما عرفوه هم، عرفته أنا وتعلّقت به منذ صغري…
لطالما أرسلتني أمّي إلى محلّه الصغير لأحضر بعض الأغراض… كنت أدخل بيته وهو دكانه في الوقت نفسه… فأضيع بين أكياس العدس والأرزّ… وأمرغ يداي في أكياس التوابل… كما كنت أضع حبوب القمح في يدي، ثم أعيدها إلى موضعها حبّة حبّة…
لم يتذمّر يوماً… وفي كلّ زيارةٍ كان يسألني عن إسمي… وطبعاً عن إسم أبي وأمي… فأقول: يا حاج، أنا ابن ميشال وحنان… فيقول: يا سبحان الله… ميشال وحنان صار عندهم شاب (كان عمري خمس سنوات)… فأنال قبلة من زوجته، وتندسّ في جيوبي السكاكر وبعض الفستق المملّح…
كنت أعود فرحاً إلى البيت، فأخبر أمّي بما حظيت… فتقول، ما يقوم به معك، قام به معي ومع أبيك، كما مع كلّ أبناء القرية… هم مثالٌ يا ولدي، فلنقتدي بهما بالمحبّة…
ميزان رزقهما لم يكن أبداً في صالح الحساب… فهم لم يتعلّماه يوماً ولم يكتباه… كانا يشتريان بضاعتهما على ألوان الأكياس… لم يعرفا يوماً ما دخل المحل، ولا ما خرج منه…
إن طلبت كيلو، تنال كيلو ومئة غرام على أقلّ تقدير…
إن دفعت ثمن عشرة من السكاكر الملوّنة التي على شكل الحبال، تنال حبلاً طويلاً لم يعدّ ما فيه يوماً…
ومن لم يزره في دكّانه، ينال نصيبه من الحمّص المملّح والسكاكر إن واظب على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد… الحاج كان رجل المبخرة، المسؤول عن إشعال فحمتها، ووضع البخور فيها ما إن ينضب دخانها…
كان يعرّج على حارتنا بعد القدّاس، فيستقبل في كلّ بيت كأنّه منه …
ذات يوم أصاب الحاجّة التهابٌ رئويٌ حاد، ولم تستطع الإفلات من قبضة الموت… فانتحب الحاج الضاحك لأيّامٍ طويلة… ولم يعد محلّه كما يعرفه الناس… فقد الكثير من وزنه… لكنّه ما لبث أن عاد إلى الحياة بعد شهور… إلى الحياة، لكن ليس العاديّة…
غياب الشريكة لم يكن بالسهل… فصار العجوز مجبراً على خدمة نفسه… هو الذي لم يعد له من نفس… إلى أن جاءه مرض “زنّار النار” فطرحه في الفراش… وأبعد عنه كلّ أهل القرية خوفاً من العدوى (مع أنّه ليس بهذه الخطورة)… ولم يبقَ له إلا سيدة فاضلة، زارته كلّ يومٍ أو يومين، غسلت ثيابه وحضّرت له الطعام… (لن آتي على وصفها بدقّة، لأنّ ما فعلته كان لله لا لتبجلّها ألسنة الناس).
نقل الحاج إلى دار الراحة بدعمٍ من الكنيسة التي خدمها منذ صغره… هناك استعاد البعض من عافيته… وفقد الكثير من قدراته الإدراكية…
زرناه في يومٍ من الأيام، فوجدناه يساعد أحد العجائز على السير… اقتربنا منه، وسألناه هل تذكرنا؟ فردّ بضحكته المعهودة، وجوابه المتوقّع: ابن من أنت؟
فقلت: إبن ميشال وحنان…
فقال: ومن يكونان؟
قلت: إثنين من عدبل…
فبتسم ابتسامةً عريضة… وقبّلني…
سألت عنه مدير الدار، فقال: لم أرى في كلّ حياتي رجلاً مثله… الضحكة على وجهه طول النهار، وقد صبغ بها كلّ العجائز الموجودين ههنا… أتتخيل؟! لقد أجرينا انتخابات، فانتخبوه ملك جمال دار الراحة…
اليوم وبينما كنت أكلّم أختي، قالت: عندي خبر يحزنك… فقلت: قولي ما عندك…
قالت: الحاج…
قلت: لا تقولي أنّه مات…
قالت: لا أزال أذكر القصص التي كانت تخبرنا إيّاها أمّي… لقد بكيت عندما عرفت بذلك… عليك أن ترى الدموع في عيون رجال القرية ونسائها… يا أخي، ربّما لم يكن له من يورثه، لكنّ الله لم يحرمه من ألف صبيّ وبنت، ربّاهم كلّهم بمحبّة…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق