This website is being formatted... please be patient until we finish our upgrading...

الثلاثاء، تشرين الثاني ٢١، ٢٠٠٦

حوارٌ مع لبنان


شهيرٌ من الشرق الغريب، نَطق باسمه كلّ لسانٍ على هذه البسيطة… لبنان العظيم، وصفوه بالغنى والجمال…
لم يعرف أحدٌ يوماً سرّ جماله وغناه… لكنّهم حفظوه كذلك، دون أن يفهموه…
يحتفل العالم قريباً بعيده الواحد بعد الستين… فقرّرنا زيارته لكشف بعض الجوانب من شخصيته، وتصحيح بعض الخرافات التي لا يزال العديد يؤمنون بها…
سألنا عن مكان إقامته، فقالوا لنا أنّه يعيش في أحد الجبال البيضاء قرب البحر…
نظرنا صوبها فوجدنا الضباب يغطّيها…
فشلنا في إقناع سائقٍ واحد ليأخذنا إلى هناك… ما من واحدٍ سألناه إلا وقال: لست مجنوناً بعد لأذهب إلى هناك…
سألنا عن السبب، فقال أحدهم: يا عزيزي، كلّ الحكومات التي مرّت علينا كانت مفلسة… وبما أنّها لا تستطيع تأمين بعض الحُماة له، جعلت طريق الوصول إليه وعرة… حُفر أكبر من سياراتنا، إن خرجنا منها تنال منّا المطبّات…
قلنا له: غريب… ما نعرفه عنه هو غير ذلك تماماً! أليس غنيّاً كفاية كي لا يحتاج إلى حكومات؟
قال أحدهم: سرقوه!
وقال آخر: لم يبق معه شيء…
قلنا: من فعل ذلك؟!
قال أحدهم: اسأله هو…
قال آخر هازئاً: هم سرقوه…
بدأ شجارٌ عنيفٌ بين الرجلين… فقال الأوّل: لا تقل عن رفقائي شيئاً، نحن ديننا يحرّم السرقة… فردّ عليه الآخر: وديننا يحرّم ذلك أيضاً… قال الأوّل: لا تقل عنهم سارقين… قال الآخر: هم سارقين…
ابتعدنا عنهم مستغربين من طريقة تصرّفهم… فاستأجرنا سيارةً أوصانا صاحبها أن نستعملها أينما أردنا، لكن ألا نصعد إلى ذاك الجبل…
ركنّاها على طرف الطريق المؤدّي إليه وبدأنا بالصعود على أقدامنا…
رأينا الحفر التي وصفوها لنا… فقلت لرفيقي: لم أرى بحياتي أغبى من هذه الحكومات… أبهذه الطريقة نحمي الأوطان؟
فقال رفيقي: ليس بالطرق وحدها تحيا الأوطان… لا بدّ من سببٍ لذلك… لا بدّ أنّ فيه من الزراعة والصناعة والسياحة ما يكفي!
قلت: سياحة! مع هكذا طريق؟!
قال: ما بالك لا تقرأ عن الطرق الجديدة للسياحة… هنا يطبقّون نفس الطرق التي في الدول الكبرى… ينزل السيّاح ويرحلون بالطوافات والبواخر… فما حاجتهم إلى طرقات…
قلت له: ولماذا لم نأتِ نحن إلى سفارتنا بدلاً من كلّ هذا العذاب؟
قال: السفير كان غائباً عن السمع يوم أتينا… والقنصل لم يستقبلنا لأنّه كان مشغولاً… وسكريتيرة السفارة نصحتنا بأن نتدبّر أمورنا بأنفسنا… فنحن راشدين، وسعادتهم (سعادة السفير وأعوانه) تعلو وتزيد إن أثبتنا ذلك…
قلت: معك حقّ… أفضّل ألا يُربحني أحدٌ جميلاً… لكن ألا يفترض أنّ هذا السفير وأعوانه يتقاضون أجراً مأخوذاً من أجورنا؟!…
قال: أخفض صوتك… إن سمعوك ههنا وأنت تقول هذا تُسجن!
قلت: ولماذا أُسجن؟
قال: اصمت فقط…
قلت: لن أصمت…
قال: يا أخي أصمت… كلّ من يفتح فاه هنا، يُتّهم بأنّه من قتلة الشهيد!
قلت: ما دخلي أنا بقتلة الشهيد! أنا ضدّ القتل أصلاً وفصلاً…
قال: يا أخي أصمت…
قلت: ومن هو الشهيد؟!
قال: هل جئت معك لتحاورني أنا أم لتحاور لبنان؟! إسأله هو ما تريد…

صمتُّ… لكنّي لم أوقف عيناي من النظر يمنةً ويسرى بحثاً عن الغنى والجمال…
طبعاً لم أجد شيئاً من كلّ ما كنت قد رسمت في مخيّلتي…
بحثت عن الزراعة فوجدت أراضيها قاحلة… لم ألتقِ إلا بفلاحٍ واحدٍ يعمل، أمّا الباقون فكانوا في أفواج الراحلين كأن نكبةً قد حلّت في أرض الخيرات…
بحثت عن الصناعة فوجدت المعامل مغلقة…
خرجت عن صمتي وقلت لرفيقي: على ماذا يعيش أهل هذه الأرض؟
قال ضاحكاً: على الطائفية، والإنتخابات…

وصلنا إلى حيث قيل لنا أنّ لبنان يسكن… وكان الضباب يملأ المكان… لم نعد نعرف إن كنّا نتوجّه شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً… بالكاد استطعنا قراءة بعض اليافطات الممزّقة… منها ما كان يقول: هنا لبنان… أنا لبنان… أنتم لبنان… كلّنا لبنان… كلّكم لبنان…
وحدنا لبنان… وحدكم لبنان… وحدهم لبنان…
لنا لبنان… لهم لبنان… لكم لبنان…
لبّيك… لبّيكم… لبّيهم…
نعم… لا… لن… إنّنا… إنّهم…
الحقيقة… الكذبة…
الإحتلال… التحرير…
المقاومة، الخنوع…
الموت… تحيا…
قتلة… خونة…
الشهيد، الشهداء…
سارقون… أنقياء وأتقياء…

تهنا من كثرة الشعارات والكلمات… لم نعد نعرف أين سنجده بين النعم واللا…
طرحنا السؤال على أنفسنا: هل جئنا لنرى لبنان، أم نحن في مجاهل الأمازون؟ حتى قبائل الأمازون لها بعض نقاط التشابه… على الأقلّ أكثر ممّا تشبه النعم اللا…

وجدناه أخيراً… شيخٌ جليل أكبر بكثير مما قالوه لنا… ربّما عشرات المئات من السنين…
كان جالساً يقراً في كرسيّه الهزّاز، محاطاً بعددٍ كبيرٍ من المعاجم والكتب…
ألقينا التحية، فردّ بألفٍ منها… وقال: تفضلّوا…
جلسنا متفرّسين في وجهه، حتى ضحك بصوتٍ عالٍ وقال: من تكونون؟
قلنا: جئنا لنضيء على بعض جوانب شخصتيك… ولنعيّدك بعيدك الواحد والستين… لكن نعتذر على الإهانة… الآن عرفنا أنّك أكبر بكثيرٍ من ذلك…
فقهقه قائلاً: أهذا ما يسوّقوه عندكم… أنا عمري واحدٌ وستون سنة؟! تبّاً لإعلام هذه الأيام… لقد أصبح صوت الرعيان العميان الذي يرمي في كلّ يومٍ قطعاني في الهاوية…
ثم أضاف: من أرسلكم؟
قلنا: جئنا من تلقاء أنفسنا…
فقال: ما زال هناك من أحرار في هذا العالم!! تفضّلا اسألا ما تريدان… عليّ أن أنهي كتابة معجمي…
قلت: ما هي هذه المعاجم المحيطة بك؟
قال: هذا معجم كلّ فريقٍٍ يعيش في ظلّي… عليّ أن أجمعهم كلّهم في معجمٍ واحد… لقد غضب الله عليهم جميعاً وبلبلهم…
قلت: أتقصد أنّك ستكتب في كتابٍ واحد كلّ اليافطات التي وجدناها في الخارج؟
قال: نعم… كلّهم في واحد…
قلت: وكيف ستجمع الأضّاد؟
قال: الوطن… المحبّة… التسامح… الوطنية… الحرية… السيادة… العلمانية…
قلت: وهل سيقرأون في معجمك؟
قال: يوم ألقي القبض على كلّ السياسيين… سوف أجبرهم على قراءته في السجن…
قلت: الصف الأوّل؟ أم الثاني؟…
قال: أعرف أنّك لم تفهمني… سأسجنهم فيّ كي لا يسمعوا إلا صوتي…
قلت: ما هي مشكلتهم الحقيقية؟
قال: كلّ منهم يريد كلّ شيء! كنت في السابق أعطيهم فيصمتون، لكن اليوم لم يعد لديّ شيء… فصاروا يريدون من بعضهم…
قلت: ما هي قصّة الشهيد؟ من قتله؟!
قال: الشهيد إبني… شعبي… وقد قتله الفاسدون والفسّادون والمفسدون…
قلت: وما هي هذه الحقيقة؟
قال: كلّهم يعرفونها… فليَدَََعوا شعبي بسلام…
قلت: لماذا الأرض مقفرة، والمعامل مقفلة؟
قال: يوم أطرد التجار من الهيكل سأعيد النباتات إلى الأرض، وسأفتح المصانع من جديد…
قلت: أيّ حكمٍ تفضّل؟ الديموقراطية الأكثرية؟ التوافقية؟ الإشتراكية؟ الليبيرالية؟ الديكتاتورية؟
قال: حكم القانون…
قلت: ما الذي ينقص شعبك؟
قال: العدل…
قلت: ما سبب وعورة الطريق إليك؟ أبهذه الطريقة تحميك الحكومات؟
قال: من أخبركم بذلك؟! هذه الطريق وعرة كي أضجر فأرحل… لكنّ المراهنين على ذلك أصابهم الوهن… أنا لا أرحل ولا أضجر ولا أموت…
قلت: لماذا يريدونك أن ترحل؟
قال: منزلي واقعٌ في منتصف مخطّط طريقهم… وبما أنّي لم أستسلم، لم ولن تمرّ هذه الطريق يوماً…
قلت: ماذا يعني لك الإستقلال؟
قال: أن أرى شعبي بألف خير…
قلت: متى سيكون ذلك؟
قال: عندما يوصدون الأبواب التي تدخل منها الريح…
قلت: هل تقصد السفارات، أم أنّك تعني قطع الخطوط الهاتفية؟
قال: قصدي آذانهم…
قلت: نصف شعبك رحل، هل سيعود يوماً؟
قال: ما إن تزهر أوّل نبتة سيعودون كلّهم…
قلت: هل أنت متفائل؟
قال: صرت كبيراً جداً على التشاؤم…

ودّعناه وتركناه لينهي معجمه… وقد وعدته أنّه ما أن ينتهي منه سأطبعه وأوّزعه على حسابي…
عندما وصلت مع رفيقي إلى السيارة، جلسنا قليلاً نتأمّل فيما سمعناه منه… فقلت لرفيقي: ما رأيك؟ هل تعتقد أنّنا في المرّة القادمة سنستطيع الوصول إليه بالسيارة؟
قال: ولما لا؟ كل شيءٍ ممكن…

أعدنا السيارة إلى صاحبها… وفي طريق العودة وجدنا السائقين الذين كانا يتشاجران لدى صعودنا، جالسين سويّاً يشربان القهوة كأنّ شيئاً لم يكن…

السبت، تشرين الثاني ١١، ٢٠٠٦

عاد الحاج


هكذا عرفه الناس، حتى حجب لقبه اسمه الحقيقي، الذي لا يعرفه إلا قلّة من أهل القرية…
كان الحاج صاحب الدكّان الوحيد، يعتاش ممّا يجود عليه هو وزوجته وكلّ أهل القرية بدون استثناء إذ لم يكن لديه أولاد…
يذكره والدي مذ كان صغيراً… ولم تمرّ ليلة إلا وحدثتنا أمّي واحدةً من القصص، يكون في أغلب الأحيان هو وزوجته من أبطالها…
الكلّ يذكره بشعره الناصع البياض، وجنتيه الحمراوين، ضحكته وشرواله… وكما عرفوه هم، عرفته أنا وتعلّقت به منذ صغري…

لطالما أرسلتني أمّي إلى محلّه الصغير لأحضر بعض الأغراض… كنت أدخل بيته وهو دكانه في الوقت نفسه… فأضيع بين أكياس العدس والأرزّ… وأمرغ يداي في أكياس التوابل… كما كنت أضع حبوب القمح في يدي، ثم أعيدها إلى موضعها حبّة حبّة…
لم يتذمّر يوماً… وفي كلّ زيارةٍ كان يسألني عن إسمي… وطبعاً عن إسم أبي وأمي… فأقول: يا حاج، أنا ابن ميشال وحنان… فيقول: يا سبحان الله… ميشال وحنان صار عندهم شاب (كان عمري خمس سنوات)… فأنال قبلة من زوجته، وتندسّ في جيوبي السكاكر وبعض الفستق المملّح…
كنت أعود فرحاً إلى البيت، فأخبر أمّي بما حظيت… فتقول، ما يقوم به معك، قام به معي ومع أبيك، كما مع كلّ أبناء القرية… هم مثالٌ يا ولدي، فلنقتدي بهما بالمحبّة…
ميزان رزقهما لم يكن أبداً في صالح الحساب… فهم لم يتعلّماه يوماً ولم يكتباه… كانا يشتريان بضاعتهما على ألوان الأكياس… لم يعرفا يوماً ما دخل المحل، ولا ما خرج منه…
إن طلبت كيلو، تنال كيلو ومئة غرام على أقلّ تقدير…
إن دفعت ثمن عشرة من السكاكر الملوّنة التي على شكل الحبال، تنال حبلاً طويلاً لم يعدّ ما فيه يوماً…
ومن لم يزره في دكّانه، ينال نصيبه من الحمّص المملّح والسكاكر إن واظب على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد… الحاج كان رجل المبخرة، المسؤول عن إشعال فحمتها، ووضع البخور فيها ما إن ينضب دخانها…
كان يعرّج على حارتنا بعد القدّاس، فيستقبل في كلّ بيت كأنّه منه …

ذات يوم أصاب الحاجّة التهابٌ رئويٌ حاد، ولم تستطع الإفلات من قبضة الموت… فانتحب الحاج الضاحك لأيّامٍ طويلة… ولم يعد محلّه كما يعرفه الناس… فقد الكثير من وزنه… لكنّه ما لبث أن عاد إلى الحياة بعد شهور… إلى الحياة، لكن ليس العاديّة…

غياب الشريكة لم يكن بالسهل… فصار العجوز مجبراً على خدمة نفسه… هو الذي لم يعد له من نفس… إلى أن جاءه مرض “زنّار النار” فطرحه في الفراش… وأبعد عنه كلّ أهل القرية خوفاً من العدوى (مع أنّه ليس بهذه الخطورة)… ولم يبقَ له إلا سيدة فاضلة، زارته كلّ يومٍ أو يومين، غسلت ثيابه وحضّرت له الطعام… (لن آتي على وصفها بدقّة، لأنّ ما فعلته كان لله لا لتبجلّها ألسنة الناس).

نقل الحاج إلى دار الراحة بدعمٍ من الكنيسة التي خدمها منذ صغره… هناك استعاد البعض من عافيته… وفقد الكثير من قدراته الإدراكية…
زرناه في يومٍ من الأيام، فوجدناه يساعد أحد العجائز على السير… اقتربنا منه، وسألناه هل تذكرنا؟ فردّ بضحكته المعهودة، وجوابه المتوقّع: ابن من أنت؟
فقلت: إبن ميشال وحنان…
فقال: ومن يكونان؟
قلت: إثنين من عدبل…
فبتسم ابتسامةً عريضة… وقبّلني…
سألت عنه مدير الدار، فقال: لم أرى في كلّ حياتي رجلاً مثله… الضحكة على وجهه طول النهار، وقد صبغ بها كلّ العجائز الموجودين ههنا… أتتخيل؟! لقد أجرينا انتخابات، فانتخبوه ملك جمال دار الراحة…

اليوم وبينما كنت أكلّم أختي، قالت: عندي خبر يحزنك… فقلت: قولي ما عندك…
قالت: الحاج…
قلت: لا تقولي أنّه مات…
قالت: لا أزال أذكر القصص التي كانت تخبرنا إيّاها أمّي… لقد بكيت عندما عرفت بذلك… عليك أن ترى الدموع في عيون رجال القرية ونسائها… يا أخي، ربّما لم يكن له من يورثه، لكنّ الله لم يحرمه من ألف صبيّ وبنت، ربّاهم كلّهم بمحبّة…

ثمرة تشرين


هل هناك أشهى من ثمار تشرين ؟
هل هناك ألذّ منها ؟
لا ، لا وألف لا…
فتشرين هو خلاصة الفصول…
خلاصة الشتاء الذي عصر أمطاره من الغيوم وعبّأها في جرار الأرض…
خلاصة الربيع الذي سكر من ماء الشتاء، وأيقظته الشمس أشجاراً وأوراقاً وأزهاراً…
خلاصة الصيف الذي ورث كنوز الربيع، وأقام الشمس وصيّاً عليها لتحميها وتنضجها…

تشرين هو يوم ميلادك …
يومٌ سلّمكِ كنوز الطبيعة…
فأطعميها للناس ولا تبخلي،
أطعميها لمن ولدوا في الشتاء ، في فصل موت الطبيعة ،
كي يستطيعوا العيش ليروا الربيع …

أمثال ألمانية


- العلماء يضعون الروزنامة والله يصنع الطقس.
- من يكسر أسنانه بقشر اللوز، نادراً ما يأكل لبّه.
- العين التي لا تريد النظر لا تنفعها النظّارات ولا الشمعة.
- نسمع سقوط المطر ولا نسمع هبوط الثلج. نسمع عجيج الآلام الخفيفة ولا نسمع صمت الآلام العميقة.
- أفضل كتاب توصية هو الجمال.
- الخجول يخاف أمام الخطر، الجبان في وسطه، والشجاع بعده.
- من يبحث عن الظلم لا يحتاج إلى مصباح.
- إن أردت التنعم بما تستحق، هبِ الآخريم ما يستحقّون.
- السنابل الفارغة تشمخ برأسها.
- يهدم الزمان ما صُنِع، ويهدم اللسان ما سوف يصنع.
- من أحرق لسانه لا ينسَ نفخَ حسائه.